ككل عيد جلست أبعث برسائل التهنئة لأصدقائي وبعض معارفي. ككل مرة أحببت أن أكون السبّاق، ليس لأن ذلك يسرني فحسب، بل تجنباً للخيبة التي قد تنتابني لدى اكتشاف عدد الرسائل القليلة التي تبلغني. لهذا السبب أبادر بالتهاني عبر رسائل نصية على الهاتف أو مواقع التواصل الاجتماعي في الغالب.
ككل مناسبة أقضيها في غربتي بأوروبا، أجد نفسي أكتب أو أقرأ رسائل باردة، لا طعم لها ولا رائحة ، كثيراً ما يتم إرسالها بشكل جماعي، ما يثير حفيظة وانزعاج البعض.
إنها تهاني "الفاست فود"، لإرضاء الذات وإراحة الضمير، على طريقة "إحنا عملنا اللي علينا، والباقي على ربنا".
الكثيرون منا باتوا يلجأون لهذه الطرق؛ لأنها حتماً أسهل وأسرع، وتوفر الجهد والوقت. لكنها تُعتبر أيضاً وسائل جيدة لتفادي المخاطبة المباشرة مع أشخاص قد لا ترغب صدقاً في تجاذب أطراف الحديث معهم.
أي عيد هذا الذي ترى فيه الأصحاب يكتفون بإرسال نص مكون من جملة أحياناً، وأحياناً أخرى من صورة مكتوب عليها "عيد سعيد وعمر مديد وصحة كالحديد" أو فيديو سخيف يحتوي أغنيةَ عيد أسخف.
هل هذا فعلاً ما ينتظره الواحد منا يوم عيد المسلمين؟
لقد كان العيد من أجمل أيام السنة التي ينتظرها الكبير والصغير بلهفة، لكنه أصبح للأسف من أتعسها؛ بسبب الوحشة التي يشعر بها الكثيرون منا في مثل هذه المناسبات، وقد جمعتنا مواقع التواصل في عزلتنا وجعلتنا "وحيدين مجتمعين" كما تقول الكاتبة والباحثة الأميركية شيري تيركل.
كثيراً ما أسمع هنا وهناك أن هذا أمر طبيعي، فالعيد تغير ككل شيء، وزمننا غير زمن أسلافنا، فلم يعد له نفس النكهة، وهذا ليس بسبب الغربة فقط، بل حتى الأعياد مع العائلة اختلفت كثيراً. ومن اللافت أيضاً سفر عدد من الأسر خلال العيد إلى الخارج وكأنهم يريدون الابتعاد عن باقي أفراد العائلة، مما يؤثر على التجمعات الكبيرة يوم الاحتفال.
لا مجال للشك، أن التواصل بين الناس يعاني نوعاً من الفتور، وأن الحياة العصرية والتكنولوجيا الحديثة لعبت دوراً في تقليص المسافات، لكنها لم تعزز العلاقات البشرية، فقللت من فرص تبادل الزيارات بين الأحباب لصالح روابط هشة في عالم افتراضي.
ترى أحياناً أفراد الأسرة الواحدة يجلسون تحت سقف واحد، فيما يحمل كل فرد هاتفه وينعزل عن الجميع في عالم خاص. أي نعم هذه الوسائل مفيدة في أمور شتى، وتسمح بالحفاظ على بعض العلاقات البعيدة، غير أنها أضحت كيفية تواصل حتى بين الأم وابنها والأب وابنته والأخ وأخته والصديق وخليله، وفي حال استمرت العلاقة، فهي تختلف كيفاً، وليتها تسير باتجاه توطيدها بل العكس، فقد انتقل الجميع ليعيشوا حياتهم من خلال شاشة إلكترونية. وكأننا نريد الاحتفاظ بإيجابيات علاقاتنا دون سلبياتها ومخاطرها. نريد خصوصية نخشاها في آن واحد.
لقد تحول التواصل الاجتماعي الحقيقي إلى تواصل خيالي وفُرقة اجتماعية وقطع فعلي لصلة الرحم المقدسة، والنتيجة: اهتمام بالآخر بشكل جزئي غير متدفق، وعدم تطور الشعور بالتعاطف.
ستتساءلون: ما الحل إذن لمواجهة هذا الضرر الذي لحق بالتفاعل البشري؟
إن لم يتغير سلوكنا فلن يتغير شيء، وسيصبح الوضع عادياً مسلّما به. لذلك وجب التحكم في أنفسنا واستخدامنا للوسائل الحديثة للتواصل فقط خلال السفر، وتعذر اللقاء والتواصل وجهاً لوجه، خاصة في المناسبات كشهر رمضان والأعياد، فمتعة اللقاء تفوق متعة الجلوس على الأريكة والتجول عبر صفحات وهمية طول اليوم والأسبوع والشهر وربما العمر.
علينا أن نعي أن التواصل المباشر أمر ضروري لتكوين فرد سوي، ونشاط حيوي يحقق التوازن الشخصي، فالتعاطي وجهاً لوجه يكون أكثر عمقاً ولا يختزل المرء في كلمات أو صور، بل يتسع لأبعاد جسدية ومشاركة فضائية وأحاسيس أكثر وضوحاً وتفاعل أكثر ثراء، يسمح بالتخلص من مظاهر السباق الاستهلاكي على شبكات التواصل.
علينا أن نجتهد ونجاهد أنفسنا للتحرر من قيود الإلكترونيات التي تستعبدنا، وأن نكتفي باستعمالها كمكمل للحياة الاجتماعية في الواقع، وألا نجعل منها الأساس والأصل.
ومن أهم الخطوات التي سنتبعها، حظر الهواتف الذكية في أوقات وأماكن معينة، ولفت نظر من يقوم بغير ذلك إلى أنه سلوك غير لائق، فكما يتوجب غلق الجهاز أثناء تناول العشاء مع العائلة والأصدقاء، يتوجب عدم استخدامه في مناسبات كالعيد لتهنئة أقرب الناس إلينا. لا بد لنا من قوانين تتفق عليها الجماعة، لا الفرد، الذي لا حول ولا قوة له أمام ضغوط وممارسات مجتمع متصل باستمرار.
وقد اقترح مختصون بهذا الشأن أن نتعامل مع هذه الأجهزة والمواقع كما نتعامل مع الطعام. فمعظمنا درب نفسه على تلافي نوع من الأغذية يومياً، وبعد سنوات ستتطور الحدود التي رسمناها إلى سلوك جديد ملزم، يندرج داخل إطار الآداب العامة والعادات السليمة.
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.