تعتبر فكرة الاستقلال الفكري مرحلة أولية في صحة بناء الأحكام وإطلاق التصورات وتبني المفاهيم، لكن إلى أي حد نحن مستقلون فكرياً؟
لو أمعنا النظر وصدقنا مع أنفسنا لوجدنا أننا لا نتمتع إلا باستقلال جزئي على الأغلب وليس كما يظهر لنا من الوهلة الأولى أننا نفكر بشكل مستقل تماماً من دون أي تدخلات جانبية أو مؤثرات خارجية.
حين يولد الإنسان يكون مجرداً عن كل الأهواء والمطامع والشهوات سوى شيء يسير انتقل إليه من آبائه وأسلافه من الصفات الخلقية المنتقلة عبر الجينات الوراثية، ويكون كأرض خصبة تستقبل كل ما يزرع فيها، بعد ذلك يبدأ في التعرف على محيطه بدءاً بأهله وبيئته وبيئة من يجاورونه ويحتك بهم ويكتسب الصفات، ورويداً رويداً يبدأ عقله في تشكيل نهج تفكيره وتترسخ العقائد والأيدولوجيات في نفسه من خلال ذلك، وكل واحد منا يختلف عن غيره باختلاف البيئات والأحوال والعوامل والأشخاص وكل يعتقد أنه على صواب وأن آباءه وأسلافه قدموا له مضامين أصيلة متينة ينبغي الحفاظ عليها، وحينما يكبر الإنسان تلعب مؤثرات أخرى من الشهوات والمطامع والأهواء والتحيزات النفسية دوراً أكبر في تيسير فكره، بعضها بينة واضحة، وأخرى خفية لا يدركها من نفسه؛ لأنها ترسبت في الأعماق، وعند احتدام الأمر يبدأ العقل في إطلاق الأحكام وفق تلك العوامل فيستميت المرء في الدفاع عن رأيه ويجزم أن كل من خالفه الرأي غارق في الخطأ.
ذكر الإمام ابن تيمية في معرض حديثه عن آراء الفقهاء وتأويلاتهم للأدلة الشرعية، بأن الناس تؤثر فيهم ثلاثة أنواع من الهوى تحول دون استقلال آرائهم وهي:
1. الهوى الظاهر (وهو الهوى الذي يدركه الإنسان من نفسه في الغالب).
2. الهوى المركب بشبهة وشهوة.
3. الهوى الخفي (وهو أقوى أنواع الهوى لأنه خفي لا يدركه أحد إلا بمجاهدة نفس وصدق معها).
ثم قال ابن تيمية: "إن الرجل العظيم في العلم والدين من الصحابة والتابعين ومن بعدهم إلى يوم القيامة.. أهل البيت وغيرهم، قد يحصل منه نوع من الاجتهاد مقروناً بالظن ونوع من الهوى الخفي، فيحصل بسبب ذلك ما لا ينبغي اتباعه فيه وإن كان من أولياء الله المتقين".
يتحدث ابن تيمية هنا عن الصحابة والتابعين والعلماء، وهم من هم في العلم والفضل والمنزلة، ويحذر من اتباع هؤلاء الفضلاء إن أصدروا فتوى أو اجتهدوا في أمر مخلوط بنوع من الهوى الخفي أو المركب لأنهم لم يكونوا مستقلين حين فعلوا ذلك، وإذا كان هذا في مثل هؤلاء فكيف بمن هم دونهم من الناس؟
كثير منا لا يدفع هواه الظاهر البين الواضح فضلاً عن غيره من الهوى الخفي أو المركب، ويزعم أنه يريد الحق ووجه الله تعالى، ولكن بقليل من الحيادية مع النفس يتبين لنا كم أننا نساق وراء أهوائنا ومصالحنا الشخصية وخلفياتنا الأيدولوجية التي نشأنا عليها، فمثلاً أنت نشأت على مذهب معين وغيرك في بلدان أخرى نشأ على مذهب آخر، وكلنا نعتقد أننا نحن الأصح وهم يعتقدون أنهم هم الأصح، وأغلب المجتمعات لم تسأل نفسها يوماً: لماذا هي تتبنى هذا الرأي؟ ولم تكلف نفسها يوماً بأن تجري وراء موروثاتها لترى صحتها من عدمها ولتتثبت من عقائدها إن كانت صحيحة فتحافظ عليها أو كانت خاطئة فتبحث عن الصحيح وتتبناها، وإن أغلب أبناء الملل الأخرى نشأوا بنفس الطريقة وسلكوا ذات المسالك، والذين أسلموا منهم لو لم يسألوا أنفسهم هذا السؤال ولم يراجعوا أنفسهم لما اعتنقوا الإسلام.
يقول علي الوردي في كتابه مهزلة العقل البشري: "قد يعتقد المسلمون اليوم أنّهم لو كانوا يعيشون في زمان الدعوة لدخلوا فيها حالما يسمعون بها. ولست أرى مغالطة أسخف من هذه المغالطة. يجب على المسلمين اليوم أن يحمدوا ربهم ألف مرة لأنّه لم يخلقهم في تلك الفترة العصيبة".
ويصف ابن المقفع واقع الأديان بقوله: "وأما المِلل فكثيرة ومختلفة ليس منها شيء إلا وهو على ثلاثة أصناف: قوم ورثوا دينهم عن آبائهم، وآخرون أكرهوا عليه حتى ولجوا فيه، وآخرون يبتغون به الدنيا.. وكل يزعم أنه على صواب وهدى وأن من خالفه على خطأ وضلالة؛ فاستبان لي أنهم بالهوى يستجيبون ولا يتكلمون بالعدل".
ليست الأهواء والمطامع هي التي تؤثر فحسب؛ بل هناك مؤثرات أخرى لا يلقي المرء لها بالاً كالظرف الزماني والفكر الجمعي والحملات الدعائية التي تمارسها وسائل الإعلام أو الدول من أجل فرض شيء أو شيطنته أو نفيه أو تبرير أفعالها وسياساتها.
وكل هذا لا يعني أن المرء مسير غير مخير في تفكيره وأفعاله كما تقول الجبرية التي تنفي عن الإنسان الفعل وتنسبه إلى الرب وتجعل منه آلة صماء لا تحدث فعلاً باختيارها، وإنما تتحرك وفق إرادة الرب، لا.. الإنسان هنا مخير في اتخاذ قراراته وأفعاله؛ لأنه يملك الاختيار ولا أحد يحول بينه وبين ذلك سوى نفسه.
أخيراً.. قد يتساءل المرء عن الحل فأقول كما قال المفكر السعودي محمد الأحمري:
"الاستقلال الفكري التام وهمٌ، لكن الإنسان يحاول قدر الإمكان أن يستقل بفكره".
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.