جو أعياد الميلاد بألمانيا مبهر في ألقه وخصوصيته. وهذا ما انتبهت إليه منذ أول إقامتي الدراسية بألمانيا نهاية عام 1996، ولم تتغير نظرتي حتى الآن. وبالمدينة القديمة في مانهايم، كان اكتشافي الأول للكريسماس الألماني (الفاينختن).
وبعد أن انتقلت إلى جامعة بامبيرغ في بايرن (شمال ميونخ)، وهي أقدم جامعة لدراسة اللاهوت بألمانيا ومدينتها القديمة من أقدم المدن الألمانية، وكانت مقراً للباباوية فترة قصيرة في العصور الوسطى. لذا، كان سوق أعياد الميلاد بوسطها من أجمل الأسواق التي رأيتها بألمانيا، ولم يتفوق عليه في رأيي إلا السوق الذي يقام بالقرب من كاتدرائية كولونيا الشهيرة.
عندما تطأ قدماك أياً من هذه الأسواق تجد نفسك، بصورة أو أخرى، انتقلت إلى العصور الوسطى في ألمانيا. البضائع، خاصة الملابس الصوفية والجلدية، وكذلك الأدوات الخشبية والألعاب والتذكرات، كلها يدوية ونتاج لتقليد طويل متوارث.
وذلك ما يمكن أن يقال عن المشروبات كذلك، خاصة مشروبهم المفضل في برد هذه الأعياد، وهو ما يسمونه الجلوفاين (Glühwein)، وهو مشروب ساخن يعد من النبيذ الأحمر والأعشاب المتنوعة. ومع كثرة تردد المسلمين على هذه الأعياد، استحدث الألمان نوعاً من الجلوفاين خالياً من الكحول! وفي سوق كولونيا، عندما تبين البائع أنني غير ألماني وقبْل أن أطلب سألني ما إذا كنت أريد جلوفاين خالياً من الكحول.
بالطبع، أنا أتجنب كل أنواع اللحوم رغم روائحها المُغرية. أما المخبوزات التي لا توجد عادةً إلا في هذه الأعياد، فحدِّث ولا حرج، خاصةً أنواع البسكويت بنّية اللون المخلوطة بالقرفة ذات الطعم النادر، وعلى الأخص النوع الذي يسمونه ليبكوخن (Lebkuchen).
والشيء الغريب أنني أكلت مرةً في مدينة بامبيرغ ما يسمونه فطيرة البصل التي تُصنع بطريقة العصور الوسطى. والحقيقة أنني فُتنت بطعمها حتى أدمنتها وارتبطتْ لديَّ بأعياد الميلاد في بامبيرغ؛ لأنني لم أجدها في المدن الألمانية التي ترددت عليها في أعياد الميلاد التالية.
وإذا وصلتَ إلى مركز أي من أسواق أعياد الميلاد تجد شجرة عيد ميلاد ضخمة مزيَّنة واسمها بالألمانية (Tannenbaum). وهنا يقولون إن أول من اتخذ شجرة للميلاد وزيَّنها كان مارتن لوثر، ولكن الحقيقة أن هذه عادة أوروبية وثنية تعود إلى ما قبل دخول المسيحية التي لم تلغِ الأعيادَ السابقة، ولكن استخدمتها بعد أن أعطتها صبغةً مسيحيةً. وفي القرآن الكريم ما يدل على أن شجرة الميلاد يمكن أن تكون النخلة!
من الطريف أن بعض الكتب الفخمة التي تُباع في هذه الأسواق، والتي تؤرخ لأعياد الميلاد المسيحية، بدأت تقارن بين حكاية الميلاد في الإنجيل والقرآن؛ بل وقد ينبه المؤلفون والمحررون بدايةً إلى أن القرآن تكلَّم بتوسع أكثر من الأناجيل عن الميلاد العجيب للسيد المسيح. وفي الأناجيل، لا نجد معلومات كثيرة إلا في "إنجيل لوقا".
ويرى المؤلفون الذين اطّلعت على كتبهم، أن الروايتين -القرآنية والإنجيلية- مختلفتان؛ فإنجيل لوقا يقول "فَوَلَدَتِ ابْنَهَا الْبِكْرَ وَقَمَّطَتْهُ وَأَضْجَعَتْهُ فِي الْمِذْوَدِ؛ إِذْ لَمْ يَكُنْ لَهُمَا مَوْضِعٌ فِي الْمَنْزِلِ (لوقا 6:2-7). أما القرآن فيقول كما نعرف: "فَأَجَاءهَا الْمَخَاضُ إِلَى جِذْعِ النَّخْلَةِ قَالَتْ يَا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هَذَا وَكُنتُ نَسْياً مَّنسِيّاً. فَنَادَاهَا مِن تَحْتِهَا أَلَّا تَحْزَنِي قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيّاً. وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُسَاقِطْ عَلَيْكِ رُطَباً جَنِيّاً. فَكُلِي وَاشْرَبِي وَقَرِّي عَيْناً" (سورة مريم: 21-26).
ورأيي أنه لا تناقض هناك، وأنه يمكن التوفيق بين الروايتين وبسهولة. فالقرآن يستخدم الفعل "انتبذت" مرتين؛ مرة: "إِذِ انتَبَذَتْ مِنْ أَهْلِهَا مَكَاناً شَرْقِيّاً"، فهي لم تكن مقطوعة عن أهلها، والأرجح أنها تركت الدير عندما بلغت. وفي المرة الثانية، "فَحَمَلَتْهُ فَانتَبَذَتْ بِهِ مَكَاناً قَصِيّاً" (سورة مريم: 22). فذهبا إلى بيت لحم ليسجلا اسميهما في موطنهما حسب التقليد، ولكن ما المانع أن تكون قد انتقلت من الناصرة إلى بيت لحم هروباً مما يمكن أن يحدث لها على يد أهلها، ومعارفها كانوا -كما نعرف- يرجمون العصاة. وفي بيت لحم لم تجد سكناً؛ لأنها -كما يقال- كانت ممتلئة بالوافدين.
وكما في إنجيل لوقا، فإن السيدة مريم جاءها المخاض في "مزود" أي (إسطبل)، وفي القرآن الكريم قيل لها: "وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ"، فما المانع أن يكون هذا "المزود" مبنيّاً على جذع أو جذوع النخل كما نفعل في الأرياف المصرية حتى الآن. وفي التفاسير الإسلامية أن النخلة التي تساقط رطبها لم تكن مثمرة؛ بل لم يكن موسم البلح كما قيل، وهذا الموسم يكون عادةً في أغسطس/آب وسبتمبر/أيلول، بينما كانت الولادة -على الأرجح- في فصل الشتاء (24 ديسمبر/كانون الأول تقريباً).
وستكون معجزةُ هز جذع النخلة أوقع لو كانت النخلة غير مثمرة وفي غير موسم البلح ومجرد جذع لا نخلة كاملة! أي هناك معجزات تترى، ولكن هل توجد معجزة أكبر من ميلاد المسيح (ع) بهذه الكيفية وعلى هذا النحو؟!
وفي الغالب، يكون بالقرب من شجرة الميلاد المزينة كورال من الأطفال، ربما يكون كورال أقرب كنيسة (بروتستانتية!) من المكان، يغنون أغاني أعياد الميلاد الكنسية الألمانية. وكما نعرف، فإن إحدى أشهر هذه الأغاني الألمانية على مستوى العالم هي أغنية (O Tannenbaum) أي "يا شجرة الميلاد".
أما أكثر ما يبهرني في هذه الأعياد، وهو ما افتقدته بعد انتقالي للحياة في بروكسل، فهو حفلات الموسيقى الكلاسيكية في الكنائس! وللحقيقة، أول تجربة كانت سيئة جداً، كانت هذه المرة في كنيسة كاثوليكية، كانت غير مدفئة بالمرة ولا معدّة لإقامة حفلة للموسيقى الكلاسيكية. والحقيقة، فقد تسرّب إليَّ الضيق قبل الحفلة؛ بسبب التماثيل التي تملأ المكان وتعامل عامة الناس معها بنوع من التقديس والإجلال. هذه المسحة الوثنية بالذات جعلتني أنفر من المكان وأفسدت عليّ -إلى جانب البرد- الاستمتاع بأي معزوفة.
وفي المرة التالية، دعتني أستاذتي "روتراود فيلاند" إلى الحفل الموسيقي في الكنيسة البروتستانتية بمدينة بامبيرغ، وهو -لو تعلمون- شيء عظيم. فخامة غير معهودة بالنسبة للكنائس؛ مسرح مهول داخل حرم الكنيسة، وضيوف قادمون من الداخل والخارج، بعضهم وزراء في الحكومة، أما الفرقة الموسيقية فهي -على ما أذكر- فرقة الكونسرت هال في بامبيرغ، وهي من أشهر الفرق العالمية في هذا المجال.
حاولت أن أجد أستاذتي في قاعة الحفلة فلم أجدها، فتعجبت وقلت: لعلها مريضة! وبعد الدقات الثلاث، ساد صمت رهيب، وبدأت الفرقة كالعادة في عزف باخ، وكان كورال الكونسيرت هال في منتهى الحرفية والتمكن، بدأت أراقب الكورال وبينما أنقل عينيّ بين أعضائه وعضواته، كانت المفاجأة المبهرة، فراو فيلاند، أستاذة الدراسات العربية والإسلامية في جامعة بامبيرغ، تقف في الصف الأول للكورال!
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هاف بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.