لم تتوقف لعبة الشد والجذب بينهما أبداً، تظل هي تنتظر هفواته لتذكره بأنه لا يحبها، ويظل هو ينتظر تذمرها من أفعاله ليظهر تسلطه وتجبره عليها ويثبت مجدداً أن حريته المطلقة لن تكبح من أجلها، حتى وإن خدش مشاعرها بعنف لا يكترث، فلا مانع لديه في أن يعود بعد أن تنام هي، ولا يجد إشكالاً في التردد على المطاعم والمقاهي والملاهي برفقة بعض أصدقائه دونها، رغم أن أصدقاءه يصطحبون زوجاتهم وعشيقاتهم في لياليهم الصاخبة، هو يفضل البقاء وحيداً.
هي تريده حساساً مثلها فهي لا تثق أبداً في رجل لا يبكي، أما هو فكبرياؤه لا تسمح له بذلك، لا يمكن لرجل قوي الشخصية مثله أن يبدو في هذه الجبلة الخرعة ويضعف أمام كائن ضعيف، لا يمكن أن يبوح بحبه لها كي لا تظن أنها مركز الكون وأن نساء الدنيا قد انقرضن من بعدها، أو أن تحسب نفسها تخلف حور العين على الأرض، لا يمكن أن يرتمي تحت قدميها إن قررت الرحيل بل سيتركها ترحل حتماً، وكل صورها المحبوسة في ذاكرته ستتناثر في الهواء مع الدخان الصادر من غيلونه وستنطفئ نار الفراق القابعة في صدره برشفة واحدة من فنجان قهوته، بينما ستبقى هي حبيسة ذكرياته الأليمة.
لم يكن هو ليشيئها لو لم تشيئ نفسها فلطالما ركض وراءها قبل الزواج، ولم تعهده هي شخصاً سريع الضجر من الأشياء التي تعجبه فما زال معجباً بالمعطف الذي اشتراه في الصيف المنصرم رغم أنه اهترأ بفعل الرطوبة في الدولاب، كيف كسر اليوم القاعدة وضجر منها؟
ولم تكن هي لتتذمر من فراغ دون سبب لو لم يضطهدها، ولم يعهدها هو تحمل الاستياء في طبعها فلطالما كانت ملاذه السعيد من ويلات الحزن رغم حدادها الدائم، ما بال قلبها يكتسي سواداً؟ الأسود يليق بها لا بقلبها.
الآن وبعد أن جفت أسطر الفراق على صحف حياتهما ووجد الارتياب طريقاً سلساً ليركن في فؤاديهما، سار الندم يندس في نفسيهما شيئاً فشيئاً، فسار الصوت الصامت يخالج خاطريهما قائلاً: ما كان عليَّ أن أترك روحي ترحل مع من أحب، ماذا لو بادرت بالصبر؟ ماذا لو لمت نفسي أولاً؟ أما كان الوضع ليكون أفضل؟ واندامتي مما اقترفت يداي، والوعتي من فراق الحبيب.
هز الشوق خاطرها فقذفت بنفسها في السيارة وقادت بسرعة البرق صوب المكان الذي كان فيه اللقاء أول يوم، لم تكن سرعة قيادتها تضاهي السرعة التي مر بها شريط الذكريات أمام ناظريها، تذكرت إطلالاتها المزينة بباقات التوليب التي جهلت مرسلها لسنين عدة، اليوم وبعد أن علمته وظفرت به رحلت عنه، ما هز فؤادها وجدب خاطرها إليه إلا غطرسته وقوة شخصيته وها هي اليوم أول من تعاني منها.
ها قد وصلت للمكان الشاهد على قصة حبها التي لم تجد نداً لروعتها قط حتى في الأغاني التي تغنيها، وبينما هي شاردة في تفكيرها وقعت عيناها على ظهر رجل يكتسي معطفاً أسود ينبعث من أمامه دخان خفيف يقف في نفس المكان، أدركت حينها أنه هو.. نعم! إنه هو.. لا يمكن أن تخطئ شكل جسمه ولو رأته من بعيد فقد حفظت معالمه وتضاريسه عن ظهر قلب، إنه هو.. لا بد أن الدخان المنبعث من أمامه ناتج عن غيلونه، ثم لا يمكنها أن تخطئ في معرفة معطفه المفضل الذي لم يبرح الدولاب مذ أن دخله، إنه هو..
دنت منه في ثقة والدمع يصنع بريق عينيها قائلة: ما أرى الأسود يليق بك.
أجابها بصوت حازم: الأسود لا يليق بمكتسيه إلا إذا كسر سواده ببياض ابتسامة على شفتيه تصدر عن سعادة تخالج صدره، أما أنا فقد حملته حداداً، لا تقوى شفتاي إلا على شفط سم التبغ من غيلوني ولا يخالج صدري إلا دخانه، بالله عليك كيف يليق بي؟
أجابت في استهزاء: هل البحر يحمل الحداد حقاً لو تمردت عليه سمكة وهو يعلم أن لا حياة لها خارجه؟
رد بغلظة وصراخ فأفزعها: أما آن لك أن تتحرري من أفكارك السلبية بعد، البحر دون أسماكه يدعى بحراً ميتاً أيضاً لا حياة له والأسماك خارجه، لا يكتمل جمال ساق الوردة إلا إذا سند أوراقها وإن ذبلت، كفاك غباء وهراء فقد أضنكت عيشتنا بأفكارك.
أجابته بنظرة أمل غمرتها قائلة: ما عهدتك تتصنع أسلوباً، ولا تنمق رداً، ولا تزخرف لفظاً، أما والله إن هذا الكلام يحاكي سجيتك وينبع من قلبك صدقاً وما دام قد اختلط بدمعك فقد صدقته.. أنا.. أنا.. أنا آسفة على كل ما بدر مني.
ضمها إليه بشوق وقال: يا غبيتي!! أنا إن فارقتك لن أعدم الخليلات والعشيقات ولن أعدم متعة الفراش مع إحداهن، لكن سأعدم حباً وعشقاً حول غلظتي إلى لين، حينها لن يكون بوسعي ثمن يقبله هو ليعود إلي.. أحبك حد الجنون.
نظراً إلى بعضهما البعض وقال لها وهو يحاول سرقة ضحكتها: لو لم أكن أعلم أن الدموع أفسدت زينتك لظننت أنك خسرت رهاناً مع صاحبة صالون التجميل.
ردت بعد أن انتهت من حالة ضحك هستيري: هذه أحسن نهاية لقصتنا، لا تتم حياة أحدنا دون الآخر وليس من الضروري أن تكون حياتنا مثالية خالية من لحظات الغضب والهفوات والشنآن، المهم أن نتعاهد على الصبر والتعامل مع المشاحنات بحكمة كي لا يضيع حبنا، وأن نملك من خصلة التسامح سعة جبل كي لا نترك بعضنا، فمن يدري قد نكمل القصة ومعنا رفيق من صلبنا.
النهاية
أما هكذا أفضل يا سيدة أحلام، أما يجدر بك أن تستثمري حلاوة أسلوبك ولغتك السليمة وبراعتك في اختيار الكلمات في نشر قيم الحب والتسامح وتوطيد العلاقات وإصلاح ذات البين، بدل تزرعي بارانويا الاضطهاد في نفس حواء وحثها على هجر آدم، ودفعها للتخلي عن الحب والمودة.
نعم لا يحق للرجل تحقير المرأة بداعي حق القوامة فهي الجانب اللين في حياته ومنبع الحنان، كما لا يحق للمرأة معاتبة الرجل على غلظة حتمت عليه بيولوجيا وسوسيولوجيا وسيكولوجيا فبها يبدو أسداً داعماً لها محافظاً عليها وضامناً لأمانها.
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.