حسين – ماكمهون .. سايكس – بيكو .. روتشيلد – بلفور
بعد التعرض بشكل موجز لمشروعي التحديث العثماني والاستعماري التغريبي والسياق التاريخي السياسي الذي تشكلت فيه الدولة العربية الحديثة ننتقل للحديث عن فوضى التفاهمات والمحادثات التي كانت تدور حول المنطقة وإعادة ترتيبها خلال الحرب العالمية الأولى، ومن بين هذه التفاهمات والمحادثات تبرز ثلاثة ثنائيات هامة:
1. مراسلات الشريف حسين – مكماهون
جرت المكاتبات المعروفة تاريخيا بمراسلات حسين – ماكمهون (والتي تكونت من 10 مراسلات) في الفترة من 14 يوليو 1915 إلى 10 مارس 1916، ففور إعلان الدولة العثمانية دخولها الحرب العالمية الأولى في مواجهة الحلفاء سعت بريطانيا إلى ضرب الجبهة الداخلية للدولة العثمانية وذلك عن طريق استغلال التوتر الحادث بين الدولة العثمانية تحت حكم الاتحاديين والعرب الذين ساءتهم سياسات التتريك والمنحى شديد المركزية للاتحاديين، فاستغل كتشنر وزير الحرب البريطاني علاقته السابقة بالشريف حسين وطالب المعتمد البريطاني بمصر سير هنري ماكمهون بالتواصل معه لترتيب ثورة عربية ضد الحكم التركي، مقابل دعم قضية الاستقلال العربية.
وقد تم اختيار الشريف حسين (شريف الحجاز) لهذه المهمة نظراً لأن نسبه يعطيه شرعية سياسية ودينية، كما أنه كان مشرفاً على الحجاز المنطقة ذات القداسة بالنسبة للعرب والمسلمين، والتي تطل كذلك على البحر الأحمر قريباً من القاعدة البريطانية في عدن.
وقد طالب الشريف حسين بدولة عربية تضم العراق والشام والجزيرة العربية في دولة واحدة، إلا أن مكمهون حاول التهرب من مسألة ترسيم الحدود وتأجيلها إلى ما بعد الحرب، لكن أمام إصرار الشريف حسين وافق ماكمهون على طلب الشريف حسين مع استبعاد بعض المناطق، مثل خط الاسكندرونة – مرسين والمنطقة غرب دمشق وحمص لإعطائها للفرنسيين، ومنطقة البصرة وجنوب بغداد ومنطقة عدن لإعطائها للبريطانيين، ووافق الشريف حسين على ذلك.
2. اتفاقية سايكس – بيكو
من جهة أخرى، كانت القوى الاستعمارية المهيمنة على الإقليم قد بدأت في التفاوض على تقسيم ممتلكات الدولة العثمانية في منطقة الهلال الخصيب، وذلك عبر الدبلوماسي الفرنسي فرانسوا جورج بيكو ومستشار الحكومة البريطانية مارك سايكس، بمصادقة من روسيا القيصرية، وقد بدأ الترتيب لهذا التفاوض منذ مارس 1915 (أي قبل 4 أشهر من بدء مراسلات حسين – مكماهون)، وانتهت هذه التفاهمات السرية في مايو 1916.
وفي هذه الاتفاقية، تم إعطاء فرنسا الشريط الساحلي لسورية بما في ذلك لبنان، وولايتي أطنة ومرسين، كما تم الاتفاق على تدعيم النفوذ الفرنسي في المناطق الداخلية بسوريا (الموصل ودمشق وحمص وحماة وحلب)، أما بخصوص بريطانيا، فقد تم منحها منطقة ما بين النهرين دجلة والفرات، بما في ذلك البصرة وبغداد، بالإضافة مينائي حيفا وعكا على البحر المتوسط، كما أعطيت بريطانيا منطقة نفوذ في مناطق داخلية تمتد من العراق حتى جنوب فلسطين.
وقد تضمنت الاتفاقية إنشاء دولة عربية في مناطق النفوذ الفرنسي والبريطاني (ربما في إشارة إلى تفاهمات حسين – مكماهون)، أما فلسطين فقد تم الانقاق على وضعها تحت الوصاية الدولية (ربما تمهيدا لتنفيذ وعد بلفور).
3. روتشيلد – بلفور
واجهت فكرة الوطن القومي لليهود في فلسطين منذ بدايتها رفضاً من السلطنة العثمانية ومن المواطنين العرب، لكن رغبة بريطانيا في كسب الحركة الصهيونية في صفها أثناء الحرب العالمية الأولى كانت سببا في إصدار وزير الخارجية "آرثر بلفور" تصريحه الشهير في نوفمبر 1917م في رسالة إلى الزعيم الصهيوني روتشيلد بدعم بلاده إنشاء وطن قومي لليهود في فلسطين.
وقد أدى هذا الإعلان إلى بدء الخلاف بين الشريف حسين والبريطانيين، الذين أسرعوا إلى محاولة طمأنة الشريف حسين بأنها لن تسمح بهجرة اليهود إلا بالقدر الذي لا يضر بالحقوق السياسية والاقتصادية للعرب، وتعللت بأن فلسطين تقع في الجزء الساحلي الغربي لخط دمشق – حمص والذي وافق الشريف حسين على استثنائه سابقاً، وأن ذلك لا يشمل بيروت فقط.
هذا الاستعراض السريع لتلك الترتيبات والتفاهمات المتعارضة تكشف لنا جزءاً آخر من أزمة الدولة العربية الحديثة، فأولاً لم يكن الطرف العربي الذي يفاوض من أجل تأسيس هذه الدولة في مركز يسمح له بتفاوض ناجح مع القوى الاستعمارية، إذ سارع بدفع الثمن عاجلاً وفوراً لهذه القوى (المتمثل في إعلان الثورة وإضعاف الجبهة العثمانية أثناء الحرب) مقابل مكسب آجلٍ وغير مؤكد (وهو إعلان الدولة العربية المستقلة في أعقاب الحرب)، ولم يضع في حسبانه أن أحداً لا يدفع ثمن بضاعة قد حصل عليها بالفعل، خصوصاً إذا لم يكن للطرف الثاني القدرة على إجبار الأول أن يلتزم بتعهداته إذا أخل بها (وعلى الرغم كذلك من تعدد المؤشرات التي تدل على نيته الإخلال بهذه التعهدات).
وثانياً أنه في هذه اللحظة التأسيسية الهامة لميلاد الدولة الحديثة في الخبرة العربية غابت شعوب المنطقة عن المشهد وتم ترسيم الدول وتقاسم السيادة لا على أساس مصالح هذه الشعوب وإرادتها بل على أساس توازن القوى وتوفيق المصالح للقوى الدولية، وهو الأمر الذي ظل يقدح في مشروعية الدول الوليدة وفي فاعليتها ربما حتى وقتنا الراهن.
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.