قُبيل استشهاد أحد شهيدَي غزة الجمعة الماضي ضمن فعاليات "جمعة التحدي" اعتراضاً على قرار الرئيس الأميركي "دونالد ترامب" بنقل السفارة الإسرائيلية إلى القدس، وبالتالي الاعتراف بها عاصمةً أبدية لإسرائيل، قُبيل استشهاد "إبراهيم أبو ثريا" تم تصوير فيديو له من جانب أحد الشباب الذين رافقوه إلى إحدى نقاط المواجهة الأكثر التهاباً.
ترك الشهيد مقعده المتحرك ونزل على الأرض الترابية التي خلقه الله من طينتها وصار يزحف على الأرض بنصف جسد الذي الله بارك فيه؛ فماذا عليه إن بُترت قدماه حتى أعلى الركبتين إن كان الله راضياً عنه؟
بملامحه السمراوية ترك الشباب المحتمين بالساتر المنخفض وأخذ يتقدم وسط دهشتهم وصياحهم له بالتحية وضحكاتهم تشجيعاً وتقديراً له.
قال الشهيد الراحل بملء فمه قبل أن توافيه المنية المحتومة بلحظات: "جئتُ إلى هنا لتوصيل رسالة إلى الاحتلال، هذه الأرض أرضنا ولن ننسحب منها، وعلى الولايات المتحدة ورئيسها ترامب سحب القرار..".
وواصل "أبو ثريا" قذائفة اللفظية: "إننا هنا مجاهدون لإثبات أن الشعب الفلسطيني شعب المقاومين الجبارين".
ووسط هتاف الشباب من خلفه وآخر جريء إلى جواره طالب الشهيد بتحرير القدس وأراد العلم الفلسطيني ليرفعه قبل أن يُصاب بطلق في الرأس من جنود الاحتلال.
هو واحد من أربعة لقوا الله يوم الجمعة "ياسر سكر" مع غزة (23 عاماً)، واثنان في الضفة هما "محمد أمين عقل" صاحب العشرينات من عمره، و"باسل مصطفى محمد إبراهيم" صاحب الـ29 عاماً.
كلهم نرجو الله أن يتقبلهم، وأن يلعن قاتليهم، وأن يجازي حكام العرب والمسلمين ما يستحقونه، إلا قليلاً منهم، فأولئك يقفون حجر عثرة ضد شعوبهم ورغبات الملايين في نصرة الأقصى وازدهار الأمة.
أما صاحب جسد نصف الإنسان والروح التي تتقازم أمامها أرواح عشرات الحكام الخونة.. أما "أبو ثريا" فلم يكن لديه من العمر أكثر من 29 عاماً هو الآخر، هل لأن الشهداء أكثر خيرية من ملايين البشر على سطح هذه البسيطة أو هذا العالم الذي يعج ويمور الظلم في جميع أرجائه، ويحفل بالطغاة والبغاة وأصحاب المنافع والمصالح، والذين لا يهمهم من الوجود سوى التهام الطعام وحسن المنام، والإبقاء على منظومة أفكارهم وأجسادهم سالمة.
كلمات "أبو ثريا" قبل أن يلقى الله عفوياً لا يكاد يدري مَنْ الذي أقر نقل السفارة الأميركية إلى إسرائيل حتى ليخبره الشاب إلى جواره، لكن الألفاظ والأسماء لا تغني شيئاً طالما كان الذين يتفنون في النطق بها يقتاتون ويعيشون على حسابها من أمثال الرئيس الفلسطيني "محمود عباس" الذي إن رأيتَه في الدنيا فلن تطيق أن تراه في القمة الإسلامية في إسطنبول يتغنى بالشرف وآيات القرآن.. فتترحم على الراحل "ياسر عرفات" فرغم مسالبه كانت لديه جرعة من الشرف والكرامة تفوق لاحقه بمراحل، وهلّم جراً فلدينا حكام ومناهضون مفترضون يتغنون بالقضية وهم يحبسونها في حقائب السيارات، بحسب قصة الراحل "إحسان عبد القدوس" تروي عن مناضل فلسطيني.. كالمئات من أبناء القضية الراكبين قطارها على عجل ليعوقوا مسيره، كان مناضل "عبد القدوس" يتفاخر بالسيارة الفارهة والعلاقات ذات المنفعة الفردية، وحين يُسأل عن "القضية الفلسطينية" يهتف في شغف وحب مصطنع:
– قابعة في "شنطة" العربية!
إذ إنه جمع جميع أوراق القضية الفلسطينية في حقيبة السيارة لتكون قريبة منه.
لم يكن "أبو ثريا" يعرف الحسابات البنكية أو الرغبة في نيل جنسيات أجنبية على حساب الثورة، لكنه لم يتحمل الحياة في هذا العالم الذي يملأه الخداع والتكسب والدجل باسم الباطل الواضح أو الحق المُخادع، ولذلك فقد "هضم" كلمات "ترامب" يوم الأربعاء 6 من ديسمبر/كانون الأول الجاري.. تلك التي قال فيها نصّاب العالم الأشهر عن تمسكه بثوب العدالة والسلام والشرف.. كاللص الذي يسرق ويرتكب الفجور في العلن ثم يرفع الكتاب المقدس فوق رأسه، ويهدد بإيلام رأس كل معترض!
هضم "أبو ثريا" كلمات "ترامب" عن أنه سيقر نقل السفارة الأميركية إلى القدس وبالتالي المزيد من ظلم وقهر الشعب الفلسطيني المُغتصبة أرض بيته ومساحة وجوده ومقدساته، ثم الرئيس الأميركي يدعو الفلسطينيين إلى فهم الوضع والتعايش في سلام مع قاتليه، وتفهم أن القدس مدينة الأديان الثلاثة، تماماً كما يأكل "الفتوة" طعام مسكين وبيته ويعتدي على حرماته ثم يطالبه بالشبع وتفهّم أنهما إخوة في الإنسانية!
أمثال "أبو ثريا" لم يُخلقوا من طينة الحياة الاعتيادية ليتفهموا مثل هذه "اللغوريتمات" ويتعايشوا معها، مثل الظَّلَمة من مصدري القرار، والظَّلَمة بدرجات من المتعايشين معه من السلطات الفلسطينية وأغلب الحكام الذين يبادرون بالاستنكار فقط للتنفيس عن شعوبهم، ومن الطرف المقابل من الحريصين على المعارضة الموسمية كلما استفحلت أمور القضية الفلسطينية ثم يخلدون إلى السبات والنوم مجدداً وتناسِي مفردات ما قالوا والبحث عن لقمة العيش من جديد، ولو على حساب القضية ولو بالصمت حتى أوان موسم معارضة متجدد.
كان "أبو ثريا" أصيب في القصف الصهيوني على غزة فبُتر وقُطِعَ قرابة نصف جسده ليسبقه إلى الجنة، ورغم إعالته أسرة تتكون من والدة وأخت أرملة، فإنه كان يؤثر أن يعمل بيديه فينظف السيارات صاعداً إلى واجهتها بجسده القصير، ومؤخراً عصفت الكرامة ومحبة أُمته به فوصل إلى خط التماس مع العدو، وأظهرته صور مؤثراً رفع العلم الفلسطيني على أعلى نقطة يمكنه الوصول إليها.
لم يترك "أبو ثريا" حجة علينا تخص التغني بمعنى اسمه، ولا ابتلائه، ولا حتى اتهامنا لذواتنا بالتقصير والتخاذل ومثله يتقدم، فلم يسبقنا "أبو ثريا"، وهو جدير باسمه وبكل هذا، ولكنه سبق بمعنى فهمه ووقر في قلبه، ولم نفهمه جيداً ولم نتشربه ولو ظاهرياً وإن ادعينا.
فلا يكفي ألا نتورط في المنافع مع المتورطين، من أصحاب "القضية وحقيبة السيارة"، بل إننا محاسبون أمام خالقنا وخالق "أبو ثريا" عن الإنسانية التي أهدرناها بترك مثله يلقى الله بفهم رائقٍ ودم ثائر كما تكون الثورة الحقيقية، فيما نعرف أن الموت الذي أصابه مُصيبُنا وإن طال الوقت قليلاً بلغة الزمن والوجود، وإن لم يكن من الموت بُد فمن العار أن نموت جبناء على الأقل!
* رابط فيديو آخر كلمات الشهيد "إبراهيم أبو ثريا" رحمه الله:
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هاف بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.