نحرق أنفسنا انتصاراً لكرامتنا المهدورة، نحرق أنفسنا لأجل العدالة أو نهدد بالحرق، نحرق رسائل وآثار من أحببناهم وخذلونا، نحترق شوقاً لأولئك البعيدين وما من وسيلة للقائهم.. نحن وطن بأكمله يحترق.
كانت أمي في قرابة الثامنة من عمرها، عندما فقدت والدتها – التي هي جدّتي – حرقاً. لجدّتي عينان خضراوان، وملامح هادئة، ومنديلٌ معقودٌ على العنق. أذكرها صورة معلقة على جدار في منزل خالي.
جدران بلادي جميعها مزيّنة بصور الراحلين، فنحن نضع الأحبّة ضمن إطاراتٍ خشبيّة تشبه التوابيت التي يخرجون فيها من منازلهم. ونعقد أشرطة سوداء على إحدى الزوايا العلويّة للإطار، لنثّبتهم في هذا السواد خشية انزلاقهم في هاوية النسيان، لا لأننا نتلذّذ بالفقدان بل لأن الموت مفروضٌ علينا، ولذلك اخترنا أن نحوله إلى جمالٍ من نوع ما نزّين به بيوتنا وأرواحنا ومنافينا.
نبدأ أعيادنا بزيارة الموتى، ونسترسل في ذكر مناقبهم، في الوقت الذي نفشل فيه في الإفصاح عن مشاعرنا لمن يشاركوننا الحياة، إلا ذاك النذر اليسير من بقايا أحاسيسنا المستنزفة.
لم أقابل جدتي يوماً، ولم تحك لي حكاية، وكثيراً ما أسأل نفسي عن تلك القصص التي كانت سترويها لي فيما لو ظلّت حيّة.
كل ليلة منذ وصولي إلى هذه البلاد الباردة، أستيقظ عدة مرات لأتفقد نفسي، لأتأكد هل مازلت حية أم لا! أنظر إلى الجدار الفارغ أمامي، وأتمنّى ألا أعلّقني هناك، وألا أعلّق أحداً، أنا أكره الإطارات الخشبية الصامتة والشرائط السوداء المعقودة.
بعد أن تفقّدت موتي السريري وتأكدت من انتظام أنفاسي، ودقّات قلبي، ذات ليلة، اتصلت بأمي، وحثثتها أن تحدّثني عن قصة الموت الذي أصاب جدتي.
تقول أمي: إن جدتي عانت من اكتئاب حاد، كانت تواجهه بالصمت، أو لعلّ الصمت كان إحدى علاماته، في سواد إحدى الليالي استيقظت، وخُيّل إليها أنّ أولادها النيام جميعهم قد لقوا حتفهم. لم تصرخ ولم تبكِ، بل اتجهت بكلّ هدوءٍ إلى فناء الدار وتناولت وعاء "الكاز" وبللت جسدها بهدوء بالسائل البارد، ثمّ أضرمت بنفسها النار.
لم تلفظ جدتي أنفاسها فوراً، إذ استطاع أحد أبنائها إطفاء النيران قبل أن تلتهم الجسد البشري الذاهب إلى حتفه طوعاً. لكنها عانت من حروق متفاوتة في الشدة، أكثرها خطورة ذاك الذي أصابها في منطقة الحنجرة نتيجة لتجمّر عقدة منديلها الذي لم يكن ليفارق رأسها أبداً. ما أدى إلى حتفها لاحقاً.
لاحكايات دون حنجرة. هكذا فقدت أمي أمَّها، وفقدت أنا جدتي.
في نوفمبر/تشرين الثاني الماضي غادرت بقارب مطاطيّ شواطئ العمر إلى زمن آخر. كنت أبتعد مكرهة دون أن أعرف أي جنون يدفعني لفعل هذا.
أذكر الليل جيداً، السواد الذي أحاطني من كل جانب. كان طعم دمعي مالحاً، ومياه البحر مالحة أيضاً. كان القارب يغصّ بالأرواح المهاجرة والذاهبة إلى المجهول. من هذا العالم، ومن ذلك العالم السفلي أيضاً، ومن كلّ جانب، كانت جدتي تبتسم للعدم وهي على مقدّمة المركب، وأنا ألهج بأدعية وتراتيل، وأتضرّع لآلهة آمنت بها وأخرى لم أؤمن بها يوماً.
لم يتسنّ لي الحديث مع جدتي قبل أن يتحوّل القارب إلى سرير، وأمي هدهدتني لأنام بعينين مفتوحتين. كنت عيناً مثبّتةً على الضوء الأحمر البعيد في الجهة المقابلة. كنا نقترب رويداً رويداً منها، نقطة حمراء صغيرة وسط السواد، أشبه ما تكون بجمرةٍ. هي جمرة جدتي الراحلة التي لازالت تتوسّط عنقي تماماً في الحنجرة، ولا يمكن أن تنطفئ أبداً.
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.