في مدينة نابلس شمال الضفة الغربية، يتشبث مقهى "الهموز" بكل شبر من المكان بعد 120 عاماً حافلة بالأحداث والأسماء التي اجتمعت لارتشاف فنجان قهوة من العهد العثماني ونرجيلة يعبق دخانها في كل الزوايا وكأنه لسان حاله يقول "نحن هنا".
فور دخولك المكان تشتم رائحة قهوة الأجداد من أوراق دالية العنب التي تظلل المقهى، فيما تشربت جذورها دخان النراجيل الذي لم يتبدل منذ لحظات تأسيسه قبل قرن وربع من الزمن.
وحالياً يعج المقهى خلال شهر رمضان برواده المعتادين بعد الإفطار.
مقهى من عبق التاريخ
أنشئ المقهى في العام 1892 في العهد التركي إبان الحكم العثماني، حيث تشير الشواهد الموجودة في المقهى إلى ذلك العهد مثل البوابة والهلال والبناء القديم والمذياع القديم الذي كان يدار ببطاريات السيارات، كما يقول صاحب المقهى، رائق الهموز لـ "هافنغتون بوست عربي".
ويضيف، "برغم كل التقلبات التي حدثت في فلسطين، إلا أن المقهى ما زال قائما كما كان. وخلال تلك التقلبات والتغيرات واكب المقهى كل الأوضاع السياسية والاجتماعية السائدة".
ففي فترة الأربعينيات، كان أعيان مدينة نابلس يجتمعون في المقهى للاستماع إلى قراءة القرآن الكريم للشيخ محمد رفعت التي كانت تذاع من القاهرة.
ويروي الهموز، "إبان الانتداب البريطاني أغلق المقهى لمدة 6 أشهر، وأصبح ثكنة عسكرية للجيش البريطاني. في العهد الأردني أصبح المقهى مكانا للدعاية السياسية لمرشحي البرلمان الأردني ومكانا للندوات السياسية والدعائية".
هنا غنّت أم كلثوم وملتقى الرفاق
وعبر التاريخ كان مقهى "الهموز" عنوانا للفنانين الذين اعتلوا مسرحه ليطربوا السامعين بغنائهم، فعلى أبوابه وقفت فيروز وغنى فريد الأطرش وأسمهان وتحية كريوكا، أما أم كلثوم، كما يروي الهموز، فقد غنت أغنيتها "يا بدر اختفي" للمرة الأولى.
ولمّا غابت أم كلثوم واختفى بدرها هدم الهموز مسرحه. ويقول صاحبه، "قبل 40 عاما هدمنا المسرح الذي غنى فيه الفنانون لأن الفترة التي كان يرتاد فيها الفنانون المقاهي الشعبية انتهت. كان المقهى يشهد فعاليات فنية وثقافية عديدة، وهو ملتقى كل فئات الناس من أطباء ومهندسين وأجانب وعامة الناس".
وتابع، "المقهى بالنسبة لبعض الأهالي المغتربين حنينا للوطن، إذ يسارعون في أي زيارة لنابلس بالتوجه إلى المقهى واستعادة الذكريات، وأي شخص يريد أن يلاقي صديقا له غريب عن البلد يقول له نلتقي في قهوة الهموز، فهو معلم معروف ورمز من رموز مدينة نابلس".
وبروح جديدة استعاض الهموز عن المسرح بالتلفاز وشبكة الانترنت التي تغطي كافة أنحاء المقهى.
الفكر والأدب والسياسية
المفكر السياسي والمؤرخ الفلسطيني عبد الستار قاسم، وهو أحد رواد المقهى منذ عشرات السنين، يرى أن الهموز معلم تاريخي، "أرى فيه جزء من نفسي وأنا صغير وأنا شاب وهو جزء من بنياني النفسي وتاريخي الفلسطيني".
ويقول قاسم لـ "هافنغتون بوست عربي" إن المقهى شهد فترة كان فيها ملتقى الأدباء والمفكرين والشعراء، وخاصة أن مدينة نابلس معروفة بقيادتها الثقافية والاجتماعية في فلسطين".
ويضيف، "كانت المقاهي في فلسطين، والهموز خاصة في نابلس، مجمع للسياسيين، شهد نقاشات في القضايا السياسية المصيرية لفلسطين مثل الإضراب الكبير في العام 1936، حيث كانت مدينة نابلس ريادية في تشكيل اللجنة القيادية للإشراف على الإضراب والتي انطلقت من هذا المقهى وتعممت على باقي المدن الفلسطينية وتشكلت اللجنة العربية بقيادة الحاج أمين الحسيني لقيادة الإضراب".
ويرى أن "المكان الذي كنت لا ترغب به وأنت صغير يصبح مقدسا عندما تكبر بسبب الذكريات، وهذا المكان له قدسية الذكرى خاصة لدى كبار السن فهو المكان الذي كان يعبر عن طاقات الناس في الابداع سواء في الأدب أو السياسة أو غيره".
"مدرسة الهموز"
أما الناشط السياسي ظافر هواش، وهو من الرواد الدائمين للمقهى، فقال إن المقهى كان مكانا للتعلم بدل المدرسة التي أغلقت خلال الانتفاضة الأولى.
ويقول هواش لـ "عربي بوست" إنه نتيجة "منع التجوال الذي شهدته المدن الفلسطينية، دعت القيادات التنظيمية لتشكيل مدارس للتعليم الشعبي، وكان هذا المقهى أحد تلك المدارس".
بدوره أكد د. فتح الله حلاوة المحاضر في جامعة النجاح الوطنية في نابلس أن "الاحتلال أغلق الجامعات لفترات طويلة خاصة جامعة النجاح الوطنية التي تشكل مركزا تعليميا هاما في الضفة الغربية، فصرنا نخاف على طلابنا من فقدان التعليم الجامعي وفقدان أجواء التعليم المعتادة، فكانت فكرة من ادارة الجامعة باستكمال التعليم من خلال الاجتماع بالطلبة في أماكن آمنة وهادئة نجري فيها المحاضرات والامتحانات وكان من أبرزها مقهى الهموز".