النموذج الاقتصادي وإيمان العجائز

إن علم الاقتصاد هو من أكثر العلوم حاجة للتنبؤ؛ إذ يحتاج رجل الاقتصاد إلى معرفة المستقبل من أجل وضع استراتيجية تناسب الواقع وتدفع بالاقتصاد نحو النمو والازدهار.

عربي بوست
تم النشر: 2018/03/19 الساعة 01:44 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2018/03/19 الساعة 01:44 بتوقيت غرينتش

إن أكثر ما يشغل الإنسان هو معرفة ماضيه ومستقبله. يقول لابلاس: "قد نعتبر الحالة الراهنة للكون هي أثر ماضيها وسبب مستقبلها"؛ لذلك لكي نفهم الحاضر علينا شرح الماضي، ولكي نتوقع المستقبل يجب علينا التدقيق في حاضرنا.

بفضل التدوين وعلم الآثار، أصبح الإنسان إلى حد ما قادراً على معرفة التاريخ. فرغم تعدد الروايات واختلاف المؤرخين على العديد من التفاصيل، فإنه يمكن القول: إن أغلب علماء التاريخ متفقون على أهم الأحداث التي شكلت ماضي الإنسانية تحديداً، والكون عامة.

نظرياً، وحسب مفهوم السببية، فإن تعرفنا على الماضي وباستنادنا إلى تجاربنا السابقة ودراساتنا المكثفة للوقائع التاريخية، لا بد أن يساعدنا على توقع المستقبل، فالأحداث التي مضت هي في حد ذاتها الأسباب التي تحتم وقوع الحاضر وبالتالي المستقبل.

لكن ما الذي يفسّر الاهتمام الشديد بالمستقبل؟

إن المسألة تتعدى مجرد الفضول العبثي أو الخوف المرضي من المجهول، بل إن أكثر جوانب الحياة اليومية أصبحت تعول كثيراً على التكهن: النشرة الجوية، أخبار الأسهم الاقتصادية، وحتى نتائج الانتخابات الرئاسية.

صاحب هذا السلوك الإنسان منذ بروز الحضارة، وتعددت أشكاله ومظاهره حسب الثقافة ومراحل التقدم العلمي والتكنولوجي.

وهنا تجب الإشارة إلى أن التوقع والتكهن أو التنبؤ هو في الأساس محاولة تقديم إفادة حول حدث مستقبلي لا يمكن الجزم بوقوعه أو بكيفية وقوعه، وعادة ما تكون الإفادة مبنية على أدلة منطقية أو غير منطقية.

قديماً، اعتبر كتاب "التنبّؤات" للمنجم الفرنسي ميشال دي نوستردام من أبرز أعمال القرن السادس عشر؛ إذ قدم تكهنات كانت في معظمها صحيحة وأحياناً دقيقة، منها موت الأميرة ديانا وأحداث 11 سبتمبر/أيلول وصعود هتلر، هذا الكتاب استقطب كثيراً من المؤيدين الذين اعتبروا نوسترداموس نبياً مبشراً ونذيراً.

لكن في العصر الحديث، لم تعُد التوقعات ميزة يختص بها الأنبياء أو حيلة يستخدمها المنجمون، بل أصبحت علماً يؤهل الإنسان للاستعداد ووضع الخطط لشتى المجالات.

إن علم الاقتصاد هو من أكثر العلوم حاجة للتنبؤ؛ إذ يحتاج رجل الاقتصاد إلى معرفة المستقبل من أجل وضع استراتيجية تناسب الواقع وتدفع بالاقتصاد نحو النمو والازدهار.

على غرار علماء الفيزياء، قدم باحثو الاقتصاد الكثير من النظريات والنماذج، من بينها نموذج سولو لنمو الناتج الاقتصادي في علاقته مع العمالة ورأس المال. ويمثل النموذج علاقة اقتصادية في صيغة معادلة رياضية تفسر طبيعة هذه العلاقة وسلوكية المتغيرات.

تنقسم النماذج الاقتصادية إلى نماذج وصفية، معيارية، وأخرى مقارنة.

وتقاس نجاعة النماذج بأنواعها بحساب قدرتها على التوقع، فعلى سبيل المثال، تعتبر الفرضية في الإحصاء التطبيقي على مدى كبير من الصحة إذا كانت فترة الثقة قريبة جداً من العدد الحقيقي الذي أردنا تقديره.

في علم الاقتصاد، يمكن رفض الفرضية أو على الأقل اعتبارها غير موثوقة، إذا لم تكن قائمة على دليل تجريبي يعكس مصداقية وصفها للعلاقة بين المتغيرات الاقتصادية.

تتطلب طبيعة النموذج تقديم تمثيل مبسط للواقع، فيفترض بذلك صاحب النظرية أن بعض العوامل تبقى ثابتة من أجل أن يدرس مختلف العلاقات الثنائية بين المتغيرات ومدى تأثير بعضها على البعض الآخر.

رغم أن هذه الافتراضات في الأغلب تمكننا من تبسيط الظواهر الاقتصادية وتوقع النتائج بشكل تقريبي، فإن العديد من الصعوبات ما زالت اليوم تواجه الباحث الاقتصادي.

أولاً: النظريات على اختلافها تقوم على مبدأ الحتمية.
على سبيل المثال، إذا قمنا نظرياً بتغيير العامل (أ) مع تثبيت العوامل الأخرى ووجدنا أن العامل (ب) تغير، فيمكن الجزم بحتمية الترابط بين العاملين (أ) و(ب). لكن يمكن للاختبار الإحصائي أن يسبب مغالطة بادعاء الباحث ضمنياً أن الترابط يعني بالضرورة السببية.

ثانياً: بانتقاء المتغيرات التوضيحية عند التنظير، فإن الباحث قد أخضع النموذج منذ البداية للتحيز؛ لأن اختيار هذه المتغيرات راجع لتحكيم ورأي الباحث.

فضلاً عن ذلك، قد يفرط العالم في تبسيط الواقع فيقصي العديد من العوامل التي من شأنها في الحقيقة أن تؤثر على الظاهرة المدروسة فيقدم النموذج عندئذ شرحاً منقوصاً أو توقعات غير صحيحة.

أخيراً، إذا افترضنا أنه بفضل التقدم العلمي أصبح النموذج الاقتصادي قادراً على اعتبار كل العوامل المؤثرة على المتغير المدروس، فإن التوقع ما زال شبه مستحيل لسبب وحيد هو العشوائية.

إن عناصر الكون مرتبطة إلى حد كبير ببعضها البعض، ولعل هذا ما تقصده نظرية تأثير الفراشة: أي أن فراشة صغيرة بخفقان جناحيها في الهند يمكن أن تُسهم في حدوث إعصار في القارة الأميركية. إن عاملاً كهذا يستحيل اعتباره؛ لأن النموذج يأخذ بعين الاعتبار العوامل التي تؤثر بشكل مباشر على الظاهرة.

إذن فعشوائية الجانب الذي يتغاضى عنه النموذج تشكل احتمالات كان لا بد من مراعاتها في سبيل تقديم توقعات أدق وتمثيل أصدق للواقع.

أمام الواقع العشوائي والاحتمالات اللامتناهية مع قصور وتحيز النموذج، يقف الباحث عاجزاً عن الإلمام بكامل الحقيقة والكشف عن الصورة الكاملة للواقع الاقتصادي.

ورغم التقدم التكنولوجي والبحث العلمي، ما زال توقع المستقبل أشبه بإيمان العجائز، مبنيّ على الحدس وغير معصوم من التحيز؛ لذلك لا بد من ترك مجال للشك ومراجعة مدققة ونقدية للنظريات من خلال تطبيقها على أكثر من واقع اقتصادي للتأكد من شموليتها وصحتها.

ملحوظة:

التدوينات المنشورة في مدونات عربي بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

تحميل المزيد