ما الفرق بين قهر يمارسه مستبد وقهر يمارسه مستغل؟
ما الفرق بين حكم العسكر وحكم الفساد؟
ما الفرق بين سجين مدى الحياة في زنزانة وسجين في شروط عمل يستهلك عمره ليحقق حد الكفاف، ولا يمكنه التوقف، كأنه راكب دراجة عليه الاستمرار في تحريك "البدال" ليتمكن من البقاء متوازناً، لأن توقفه يعني سقوطه، وليس مجرد أن الدراجة ستتوقف؟
أي فرق بين تحريف المعابد لصفاء العقيدة، وتحريف الليبراليين الجدد لقيمة الحرية، الأسمى في حياة البشر، وتحريف الاشتراكية لتصبح رأسمالية دولية، مادام الجميع يعملون على تحويل الناس إلى "أرانب" في سباق ينتهي بحشرهم في جحور الذل والفاقة؟
وكأنه لا أحد يضحك في عالم أسرف في استهلاك نفسه، وتجاوز الحد في نهش لحمه. الجميع يبدون غير سعداء، فمن الذي يحصد ثمار بؤسهم؟ ومن الذي يصنعه؟ ولصالح من؟
إن أحوال العالم تسير من سيئ إلى أسوأ، من مركز الإمبراطورية إلى أطرافها (الخاضعة والمضطربة)، ومن مراكز التنوير إلى كهوف الجهالة ومستنقعات الضحالة. معضلة النمو السكاني السلبي تهدد الغرب بتمامه، ومعضلة التنمية تهدد العالم الثالث، والخيارات كلها حدية: الصناعة مقابل البيئة، والتكنولوجيا مقابل السلامة النفسية والاجتماعية.. إلخ. في صراعات لا أحد ينتصر فيها ولا أحد ينسحب منها، فالأقوياء لا يتوقفون عن شن حروب الإخضاع (أو الحملات الاستعمارية كما يسمونها)، التي لا مجال فيها للحديث عن الحق والخير والجمال (إذ سيبدو بلاهة خالصة) سواء في وسائلها أو في أهدافها، كما أن هؤلاء الأقوياء يفرضون على الضعفاء طغاة وأنظمة قمع استبدادية، تضمن تحويل حياتهم إلى جحيم، على نحو أسوأ حتى من الحروب، وهكذا يستمر فرار الضعفاء نحو "سفن العبيد" التي كانت -فيما سبق- تحمل ركابها التعساء إلى الشمال قسراً،
على نفقة مالكيهم، فأصبحوا يركبونها طواعية ومجازفة، مع تغير اسمهم إلى مهاجرين غير شرعيين، فارين من وجه الموت والفقر إلى أمل الحياة، في الحد الأدنى من معناها. ومن لا يلحق بإحدى سفن نقل العبد، ربما يجد نفسه طرفاً في هجمات محدودة (يسمونها الإرهاب)، ولاحظ أن الأقوياء هم من يفرضون التسمية في الأحوال كلها. بينما من هم دون الأقوياء وفوق الضعفاء يسعون إلى اقتناص دور "الشرير بالوكالة" باعتباره أماناً من النزول إلى مرتبة "الضحية" وتدريباً على ممارسة بطش الأقوياء.
صراعات لا تدور في الأفلاك الدولية فحسب، بل تجري أيضاً في داخل كل دولة، حيث إن "الصراعات الداخلية في الدول المختلفة لا يمكن فهمها في إطار بسيط لا يتجاوز حدود الدولة، وإنما في إطار النظام العالمي، الذي كان ـ ومازال ـ يعبر عن قانون "التطور المركب وغير المتكافئ"، وهو يعني إمكانية تعايش شرائح، تمثل مراحل مختلفة من التطور، وتنمو بمعدلات مختلفة، داخل مجتمع واحد. وبناء عليه فإن ميزان القوى بين هذه الشرائح يرتبط عضوياً بموازين القوى المماثلة في دول أخرى، وأي تغيير "هنا" يرشح تغييراً "هناك"* وهو نمط يؤدي إلى تقريب الفجوة بين شمال العالم وجنوبه بقدر ما يشعل عوامل الصراع على صعيد المجتمع الدولي، وفي داخل كل دولة على حدة أيضاً بين مستويات مختلفة من التطور الاجتماعي والاقتصادي، وهكذا نفهم كيف يتجاور البؤس والترف في الدولة الواحدة،
حيث يعيش ملايين البشر في الجنوب في مجاعة حقيقية وعوز يكتنف كل شيء، بينما ينعم جيرانهم بفائض في كل شيء. كما نفهم كيف يمتن البؤساء الجوعى في الجنوب للدول "الصديقة" في الشمال التي تقدم لها "معوناتها" التي هي في الحقيقة "قمامتها" من كل شيء ترميها عندهم لتلوث بيئتهم وتسمم حياتهم (بالمعنى الحرفي وفي المجالات كلها) مقابل ضمان قدرتها على الاستمرار في استنزاف ثرواتهم.
وكلما تصاعدت أزمة الرأسمالية، في "الشمال" حيث الثروة والتقدم التقني والقوة، تحت ضغط نقص الأيدي العاملة والمستهلكة أيضا، اندفع ـ تحت ضغط الحروب وقمع المستبدين ـ المزيد من مراكب الموت حاملاً من الجنوب "شحنات الإنقاذ" لخطوط العمل والاستهلاك، وكما كان يحدث في مراكب العبيد الأولى، فإن نصف الحمولة، وربما أكثر، يغرق في البحر، لكن، وكما كان يحدث في مراكب العبيد الأولى، فإن من يصلون فيهم ـ حتى الآن ـ الكفاية. الكفاية لتشغيل البيدر والطاحونة، والكفاية أيضاً لزيادة الضغوط على من سبقهم من عمال، وزيادة التوتر حيث تتصاعد التهديدات في المجتمعات التي يصلون إليها، لكنهم ـ حسب قواعد اللعبة ـ لا ينتمون إليها، ليظلوا ـ حسب المطلوب ـ على هامشها، لا لنقص قدرتهم على الاندماج، بل للرفض المتصاعد لوجودهم في عنصرية يقودها المستغلون متسائلين: إن اندمجوا فمن سيؤدي الأعمال الخشنة؟ وإن تقبلناهم فكيف تستمر غاراتنا على أقاربهم في جبالهم ووديانهم وصحراواتهم؟ بل كيف تستمر قدرتنا على "ترويض" ثروات العالم لتصب في خزائننا؟ وإن فقدنا هذا وذاك، فمن أين ستأتينا الأموال؟ ومن سيعوض خسائرنا؟
إنهم هؤلاء المفروض عليهم أن يظلوا منفصلين عن مجتمعهم، وغير المسموح لهم بتغيير موقعهم، ليصلح استخدامهم عند الحاجة "إرهابيين" فعليين أو محتملين، أو "ضحايا" في حوادث "عنصرية" لنشر الذعر وترسيخ الانفصال.
وهكذا يزداد ـ في آن واحد ومكان واحد ـ التراكم الرأسمالي مع مظاهر الفقر المدقع والفروق الطبقية التي تضع دولها في قلب "حزام الزلازل"، وكلما زاد تراكم الأسلحة في مخازن هذه الدول زادت مخاوفها وأصبحت أكثر حذراً من الغاضبين داخلها وخارجها، ووصل الهوس بها إلى حد العمل على إقصاء البشر تخلصاً من مشاكلهم، مع تصور أن "الأتمتة" هي المخرج لمجتمعات تنام على الخوف وتصحو على تآكل تعدادها السكاني، لتتآكل معه قوة العمل وطاقة السوق، والمؤكد أن ما يرونه باب الخروج ليس إلا فوهة القبر الذي تندفع إليه هذه المجتمعات بكامل طاقتها، فالأرض لم تخلق للماكينات والروبوتات، والأتمتة التي تسكن مؤقتاً أوجاع شيخوخة الدول الشائخة، تتيح أيضاً الوقت الكافي لنخر عظامها وتقطيع أوصالها حتى لا يبقى منها شيء.
هذا في الشمال، أما في الجنوب، حيث التخلف والفقر والضعف والكثافة السكانية، فيتأكد يوماً بعد يوم أن الاستعمار لم يرحل، ونسمع صوته واضحاً وهو يصيح "البقاء في فلكي أو الفوضى"، لتبقى قيمه وإن اتخذت أشكالاً تناسب اختلاف المقام، خاصة العنصرية، التي نكتشف أن الفقراء أيضاً يمكن أن يمارسوها ضد الفقراء، والضعفاء ضد الضعفاء، وهي العنصرية التي تأتي في قوالب القبلية والمذهبية والطائفية والمناطقية، وقبل هذا كله تأتي في قالبي القومية والقطرية، وكلاهما سواء وإن اتسع النطاق في الأولى وضاق في الثانية. وككل شيء فإن عنصرية الجنوب ليست أكثر من "رجع صدى" لعنصرية الشمال، فهو الذي يحركها ويوجهها ويطلقها ويوقفها حسب حاجته، في سياق صراع يباح فيه كل شيء،
من التلاعب بالعقول إلى شن الغارات الحربية من قبل الشمال، ومن التهريب إلى الهجمات الإرهابية من قبل الجنوب، جرائم ترد على جرائم ويتورط في مستنقعها الجميع، في صراع يبدو مفتوحاً إلى ما لا نهاية، وهو كذلك بالفعل ما بقي هذا "النظام العالمي" قائماً، أعني النظام القائم على القاعدة البدائية "الغنائم للمنتصر وويل للمهزوم"، والتي لا تصبح حضارية لمجرد أن المنتصرين ما عادوا يأكلون لحوم المهزومين معتبرين جثثهم جزءاً من الغنائم، فهم لم يتنازلوا عن الجثث لديدان الأرض إلا تفرغاً لتحويل الأجيال المقبلة إلى جثث، عبر امتصاص ثروة المهزوم وطاقة عمله، وتحويل بيئته إلى "مكب" يلوثه المنتصر بكل نفاياته المادية والروحية والفكرية.
في أهمية الحزب
في هذا السياق فإن الحزب الثوري هو فاتحة أممية جديدة، تقوم على أساس أن الجدل ليس بالضرورة صراعاً (بمعنى القتال)، وتأتي وقد أصبحت ضرورة بعد الفشل المعلن لما سبقها من مشروعات أممية، ومنها الأمم المتحدة، التي ولدت ـ منذ البداية ـ لتقوم بتنظيم العنصرية وضمان ألا ينفجر الجنوب المضطهد في وجه الشمال المهيمن، وأحسب أن شهادة وفاتها، بمعنى انهيار هيكلها الفارغ من المضمون، وقعت بالأحرف كلها يوم أن فشل مجلس الأمن، وهو أكثر هيئاتها نفوذاً، في وقف إطلاق النار في مدينة سورية واحدة (هي حلب) ولو لأقل وقت ممكن، وبغرض تمرير القليل من الطعام والدواء، لأن سادة الأمم كانوا يريدون الاستمرار في قتل مسالمي سوريا، للقضاء على جذوة الثورة واستعادة سوريا، البقعة الاستراتيجية بالغة الأهمية لأمن الإمبراطورية الأمريكية في منطقة الشرق الأوسط.
إن الحزب يأتي في لحظة لا يرى العالم فيها منهجاً إلا مواصلة صراع، غير قابل للحسم، لا ليقف في وجه أطراف الصراع، ولا ليقف بينهم، بل ليعيد فكرة الصراع إلى منطق "الجدل" مؤكداً أنه لا يقتصر على منطق "العدوان".
وهنا نتذكر أن أول عدوان وقع على الأرض تمثل في جريمة قتل، ارتكبها أخ طمع فيما هو أكثر من حقه، ضد أخيه الذي لم يسلبه حقه، ولا قيد حريته، والمؤكد أن قادة الإمبراطورية وحراسها وخفرها وعبيدها يدركون أن استمرار سلب الحقوق وتقييد الحريات لا معنى له إلا استمرار العدوان (ولهذا يختارون أن يكونوا المعتدي وليس المعتدى عليه، الذئاب وليس الحملان). بقدر ما يدركون أنه لا يمكن تحدي ثورة الاتصالات، التي تقرب البعيد وتجعل العالم أكثر تشابكا، بزيادة الفوارق الطبقية والفئوية والتقنية، التي لم يكن استمرار السلم الاجتماعي في ظلها ممكناً لوقت طويل، حتى من قبل ثورة الاتصالات.
إن الجدل قائم، وتناقض المصالح أيضا قائم، والنظام القائم لا يطرح لإدارة هذا الجدل إلا الإرهاب من ناحية، والحرب والاستبداد من ناحية، سواء أكان استبداد العسكر أم ديكتاتورية البروليتاريا التي أفضت ـ عملياً ـ إلى استبداد العسكر ورأس المال على الصعد المحلية، أم كان استبداد الإمبراطورية الأمريكية بنخبتها التي يختزلها البعض إلى خمس عائلات، على الصعيد العالمي.
ومن هنا تتبدى حتمية الثورة (وأداتها الحزب الثوري) لا باعتبارها مجرد سبيل آخر لإدارة الصراع ـ كالحرب والإرهاب ـ بل لنقض منظومة الإمبراطورية وأدواتها وقيمها نحو عالم آخر يديره سكانه لصالح هؤلاء السكان أنفسهم.
عالم يخلو من سفن العبيد القادمة من الجنوب، ولا يعيش فيه الشمال مهدداً بالانقراض جراء نقص الخصوبة وانخفاض معدلات التوالد، بل ينفتح أمام الرحلات الحرة للعمل والتعليم، بما يحقق مصلحة العمال والمعلمين والطلاب وغيرهم، ومصلحة المجتمعات التي يتنقلون بينها.
عالم لا فضل فيه لعربي على أعجمي ولا لأبيض على أسود إلا بما يقدمه كل منهم من عمل، يعود إلى أصل الوصايا العشر "لا تقتل، لا تسرق.. إلخ" منعتقاً من التفسير العنصري الضيق "لا تقتل أخاك ولا تسرق أخاك.. أما الأغراب فمباحون".
عالم لا يلقى فيه القمح في البحر، ولا توضع اللحوم والدواجن في البرادات العملاقة حتى تتعفن، بينما هناك 11% من سكانه، نحو 815 مليون شخص، يعانون الجوع المستمر*، ليموت معظمهم بسببه مباشرة، بينما الأسعد حظاً يموتون مرضاً، بعد تناول حثالة الطعام الذي تسببت سياسة الإمبراطوية في تعفنه داخل براداتها، ثم أدت السياسة نفسها إلى توزيع جانب منه على الجوعى ضمن "المعونات" و"المساعدات" التي تحمل، من دون خجل، صفة الخيرية والإنسانية!
وحسب "برنارد شو"* فإن الطرق السبع التي اقترحها لتوزيع الثروة هي: التوزيع على أساس: الإنتاج (لكل ما ينتجه)، أو الاستحقاق (لكل ما يستحق)، أو القوة (لكل ما يستطيع أن يضع يده عليه)، أو التقسيم إلى عوام لهم ما يمسك رمقهم وهم يكدحون طوال اليوم وسادة يستأثرون بالباقي (وهو نصيب الأسد)، أو التقسيم غير المتساوي على طبقات تقسم حصة كل منها بين أفرادها بشكل متساو أو أقرب للمساواة، أو بقاء الوضع على ما هو عليه، أو الاشتراكية أي نصيب متساو لكل فرد. وينحاز "شو" للخيار الأخير، برغم المعضلتين اللتين تحاوطان البريق الأخاذ لتعريف "نصيب متساو لكل فرد":
الأولى أنه لم يتحقق أبداً في أي مجتمع مركب، ولا تحقيقه مطروح حتى على المستوى النظري في أية مرحلة، من الاشتراكية (المرحلة الدنيا للشيوعية) التي يقوم توزيع الناتج الاقتصادي على مبدأ " كل حسب مساهمته"، وحتى المرحلة العليا، والتي تتوزع فيها الواجبات والحقوق على أساس القدرات والحاجات "من كل قدر طاقته ولكل قدر حاجته". والمعضلة الأخرى أن "المساواة" لا تضمن "الكفاية"، والأمثلة كثيرة وأبسطها: العملاق البدين الذي سيحتاج قماشاً أكثر من النحيف القصير. وهكذا يبدو الخيار الثاني "لكل ما يستحق" هو الخيار الأقرب إلى المنطق وإلى "القانون الإنساني العام" بشرط ضبط عناصر "الاستحقاق" على أساس الاجتهاد (بذل أقصى جهد ممكن) والاحتياج، صعوداً من الكفاف وصولاً إلى الترف، في إطار الظرف المجتمعي العام. وهو ما يبدو شرحاً لعبارة "من كل قدر طاقته ولكل قدر حاجته" بعد إضافة كلمة "مجتهد" وضابط "تحقيق حد الكفاية" لتصبح العبارة "من كل مجتهد قدر طاقته ولكل مجتهد قدر حاجته، على ألا يقل عن حد الكفاية" وهو ما لا يمكن الوصول إليه، ولا إلى أقل منه، إلا بعد نقض المنظومة القائمة بتمامها، وحتى ذلك الحين سيظل "767 مليون شخص يعيشون بأقل من دولار واحد يومياً، بينهم 30 مليون مصري يرزحون تحت خط الفقر المدقع"* وهو يرتفع باطراد، خاصة في مصر مع استمرار احتكار مصادر الدخل (التي تقل أيضاً) وانخفاض قيمة العملة، وأي احتجاج من جانب هؤلاء الفقراء يقابل بأشد درجات القمع قسوة، بالاعتقال وإصدار أحكام جماعية بالإعدام والسجن لمدد طويلة بناء على اتهامهم بالإرهاب، بعد محاكمات هزلية، يستغل فيها الخلط المقصود بين "لوائح الضبط والبوليس" وبين "القانون"، ويتم تحصينها محلياً ودولياً عبر آليات أبرزها توجيه انتقادات شكلية، وكأن هناك جوهراً يمكن البناء عليه، كتسمية قتل المحامين واعتقالهم "إخلالاً بحق الدفاع" وتسمية الاختطاف والاعتقال، من دون محاكمات، لشهور طويلة في أماكن مجهولة لا يتوفر فيها الحد الأدنى من مواصفات الآدمية "المعاملة الخشنة للمساجين"، وإطلاق صفة "الإهمال الطبي" على قتل المعتقلين عمداً بإصابتهم مع تركهم ينزفون.
ويقدم "ترونسكي" تلخيصاً مفيداً في مقاله "لماذا يعارض الماركسيون الإرهاب الفردي؟" مؤكداً أن هذا النوع من العنف يتناقض مع الثورة، إذ يجعل الجماهير تنصرف عن الحشد والعمل الجماعي إلى التعلق بوهم بطل فردي، لا هو سيأتي، ولا رصاصته ـ وإن أصابت هدفها ستجدي. وفي المقابل يوضح "تروتسكي" أنه"لا داعي إلى التأكيد أن الاشتراكية الديمقراطية لا تمت بصلة إلى أولئك الأخلاقيين الأنذال الذين يردون على كل عمل إرهابي بتصريحات حول القيمة المطلقة للحياة الإنسانية. فنفس هؤلاء مستعدون في مناسبات أخرى وباسم قيم مطلقة أخرى ـ شرف الأمة أو هيبة الملك مثلاً ـ لدفع ملايين البشر إلى جحيم الحرب. يتمثل بطلهم القومي اليوم في الوزير الذي يمنح حق الملكية الخاصة المقدس، وغداً عندما تتحد يد العمال العاطلين اليائسة في قبضة أو تمسك سلاحاً سينطقون بشتى أنواع الحماقات حول رفض كافة أشكال العنف".
ويؤكد "إذا كنا نعارض الأعمال الإرهابية فلأن الانتقام الفردي لا يشفي غليلنا. فحسابنا الذي سنصفيه مع النظام الرأسمالي أكبر من أن يمثله موظف يدعى وزيراً. إن تعلم النظر إلى كل الجرائم ضد الإنسانية وكل إهانة لجسم الإنسان وروحه بما هي تعبيرات مشوهة للنظام الاجتماعي القائم، بهدف تصويب كافة طاقاتنا في نضال ضد هذا النظام، هو الاتجاه الذي يجب أن تجد فيه رغبة الثأر العنيفة أرفع إشباع معنوي لها".
كما يؤكد تروتسكي أن الإرهاب ـ في نهاية المطاف ـ ليس إلا إفرازاً لممارسات السلطة حيث يقول: "كانت موجات الاغتيال التي يقوم بها الفوضويون في أوربا الغربية وفي أمريكا الشمالية تأتي دائماً عقب فظاعة ما اقترفتها الحكومة، كإطلاق نار على مضربين أو إعدام معارضين سياسيين. إن أهم مصدر بسيكولوجي للإرهاب هو شعور الثأر الباحث عن مخرج"*.
وإضافة إلى مطاردة الثوار بتهمة الإرهاب، يتم تحريف العمل الثوري إلى معارضة عدمية، تقدم ضمانات اغتيال الثورة وتستجدي فتاتاً مقابل ذلك، سعيدة باستعراضاتها البائسة والهزلية التي تطلق عليها مؤتمرات، والتي تقف فيها دماها الخشبية الخرساء أمام مكبرات صوت مفاتيحها تحت أصابع الجنرال، مع مطالبة الجماهير بأن تصدقها، بينما هذه الجماهير نفسها، تشاهد في الوقت نفسه آلاف المعتقلين يسامون سوء العذاب، وبين هؤلاء المعذبين عسكريون يحملون رتباً باذخة مازالت أوسمتها تلمع برغم رشاش دمائهم ووحول المهانة التي لوثتها، لا لأنهم ثاروا مطالبين بهدم السلطة، بل لأنهم تطلعوا فقط إلى المشاركة في تداولها، أو عارضوا قواعد الاستئثار بها، مطالبين لأنفسهم بحصة أكبر ليس إلا.
وحتى لا يتحول الزائفون المسموح لهم وبهم، بل المدفوع بهم من قبل السلطة إلى أبطال، والمتطلعون إلى شهداء، فإن الثورة لا يمكنها المضي من دون إزاحة "دمى الهراوة"، واستثمار سقوطها في تعجيل سقوط السلطة، وهو ما يحتاج إلى عمل سياسي، يسعى لخلق الفرص والمساحات وإدارة كل منهما، وهو ما لا يمكن إنجازه إلا في وجود حزب ثوري، لا معنى لغيابه إلا تحول الفرص المتاحة إلى عقبات جديدة، فالأسوأ من ألا تطرق الفرصة بابك، أن تطرقه وأنت نائم، ومن ألا يتاح لك دخول بستان تتساقط ثماره الناضجة، أن تدخله وليس معك سلة تجمع فيها الثمار، وهكذا الحال في غياب الحزب الثوري.
إنها معضلة من "غلبوا على أمر الثورة" من قيادات الصدفة غير المؤهلة، والذين أصروا على إدارة مرحلة "الثورة المضادة" بالاقتصار على الإعلام وحده، الذي يصلح للكشف والتعريف، لكنه لا يكفي للتغيير. يصلح للحشد لكنه لا يقدم لمن حشدهم منهجاً يمكن العمل من خلاله. وهو خيار لم يأت من فراغ، ولا هو يعبر عن الثورة، لكنه يعبر عن سلطة حائرة بين من فقدوها ومن اقتنصوها ومن لا يملكون إلا التطلع إليها. خيار يكشف حرص أصحابه على بقاء المنظومة، وبقائهم داخلها، وإن رغبوا في تعديل أوضاعهم. وهو ما تكشفه أطروحة "الاصطفاف" التي تعني ضمان بقاء السلطة في حدود دائرة كل أطرافها هم جزء من الأزمة، وجزء من دولة الجنرال، ومن الثورة المضادة إن لم يكن بحكم الانتماء المباشر إليها فبحكم الارتباط بأحد أطرافها. اصطفاف ليس لديه ما يغري به اللاهثين وراءه إلا وعود غامضة بالإفراج عن المعتقلين،
ومشاركة هامشية ضمن ما يسمونه "انفراج المجال العام"، لكن الجنرال سيظل في قلب الدولة، مع قليل من التهذيب في أفضل الأحوال، والدولة ستظل نقطة خاضعة في فلك الإمبراطورية الأمريكية، ملتزمة بما يفرضه الخضوع من جزية وطاعة، مقابل حماية سلطتها من غضب الشعب، الذي قد يستمتع بزيادة طفيفة فيما يتاح له من نفايات الإمبراطورية، طالما بقي خانعاً ليمكن تمويل هذه الزيادة من حصيلة ما تم تخفيضه من موازنة القمع. ويسمونها ثورة!
***
إن الثورة المضادة التي واجهتنا على الصعيد العالمي تلزمنا بمواجهتها على الصعيد نفسه ـ أي الصعيد العالمي ـ وإلا فإن أية محاولة لثورة قطرية محدودة لن تكون أكثر من قصر على الرمال ينتظر أول موجة، أو دهسة قدم، تهدمه.
وقد عبر توافق الحراك الثوري، والردة عليه معاً، على الصعد العالمية والإقليمية والمحلية، ولو على نحو غير مكتمل، عن وجود توافق في دالة حركة عوامل الثورة، ودالة الاستجابة لها شعبياً وسلطوياً أيضاً.
ما يعني وجود أزمات في حالتها القصوى، تهدد بنية الدولة، وأن هناك صراعاً بين السلطات، وأن تكلفة بقاء الحال على ما هو عليه ترتفع على نحو يخفض التكلفة النسبية للثورة شيئاً فشيئاً.
وبقدر ما يقر الجميع بصعوبة مواصلة السير على نحو ما هو قائم، بقدر ما يختلفون بشأن صورة القادم، الذي يقيم كل طرف تصوراته لها على أساس فرصته في حسم الصراع لصالحه، ولا يتصور أحد أن التغيير الحقيقي الذي يمكن أن يرسم صورة مختلفة هو تغيير مفهوم الصراع نفسه ليصبح جدلاً لا عدواناً، وإلا فإن كل تغير في المشهد سيظل مؤقتاً، ذلك أنه تغير يعبر عن نصر محدود في معركة، بينما تظل الحرب نفسها مستمرة ولا سبيل لحسمها أبداً، ونصر على هذا النحو ليس أكثر من تمهيد لهزيمة تعيد صياغة المشهد لكنها لا تغير تفاصيل الصورة.
والسؤال الذي نطرحه، ونجتهد نحو اقتراح إجابته هو: هل يمكن ميلاد هذا العالم من جديد؟
هذا العالم الذى ولدنا عراة تماماً، جهلة إلى حد الذاكرة الفارغة والعقول الملساء، لا إبداع نقدمه، ولا نماذج سابقة نبنى عليها أو نقلدها. ثم سرنا بالتجربة من خطأ إلى خطأ وبينهما اجتهادات للتصحيح، تفتقر إلى المنهج الواضح، وإلى حساب احتمالات النتائج.
الآن، وقد جربنا وعرفنا، وأخطأنا ودمرنا، وأغرقنا عالمنا تماما فى مشاعر ودوافع وهواجس وحقائق ومعارف ونواتج العداء، هل يمكن أن نعيد نحن ولادته وصولاً إلى شاطئ آخر من السلام، لا من السيطرة ولا من الاستسلام؟ هل يمكن أن نصبح نحن الأسماك التي تخلت عن ذاكرتها القصيرة، وتعلمت كيف تعمل معا لإنتاج المزيد من نباتات الماء بدلاً من الانشغال بتعطيل بعضها البعض عبر مطاردة تنتج من السم أكثر مما تنتج من اللحم ـ لحمها هي ـ الذي تتبادل نهشه والهروب منه؟
هل يمكن أن نقيم حركة أممية تعيد الاعتبار إلى "الأساسي" من الحقوق والحريات، وتضع "الثانوي" في مكانه الصحيح، فلا هي تغفله ولا هي تزايد به؟ والمثال الأكثر بساطة هو أن حق الفقراء في الحفاظ على نقاء بيئتهم يسبق حق الأغنياء في أن يطوروا صناعاتهم.
وفي سياق عالم قائم على الصراع، بمعنى العدوان، فإنه ليست مصادفة أن الحقوق والحريات الأساسية هي بالضبط تلك التي دأب المستبدون على إهدارها، بقدر ما دأب عبيدهم على تبرير هذا الإهدار، وهي نفسها الحقوق والحريات التي قام الحراك الثوري الأخير، وقاطرته "الربيع العربي" لتأكيدها والمناداة بها، وهي:
* الحق في الحياة: وهو حق مقدس لا يمكن التنازل عنه ولا التهاون في حمايته من قبل المجتمع الإنساني كله، ويعد كل اعتداء عليه، خارج إطار الدفاع الشرعي عن النفس، جريمة قتل، حتى وإن كان مرتكبها ممثلًا لسلطة، ويرتبط به الحق في الحصول على الاحتياجات الأساسية للحياة، والتزام كل دولة بالمساواة المطلقة في توزيع الموارد على مواطنيها لحين تحقيق حد الكفاية، كما يرتبط به الحق في التكافل الإنساني بين مختلف دول العالم.
* الحق في سلامة الجسد واحترامه: وهو حق مترتب على الحق في الحياة، وفي درجته نفسها، ويغطي سلامة البدن والعقل والصحة النفسية.
* الحق في الحرية: بمعنى أنه لا يجوز استرقاق أحد، ولا إكراهه إكراهاً مادياً أو معنوياً على فعل ما لا يريد، ولاتسخيره فى عمل من دون أجر أو بأجر منخفض عن نظيره على غير رغبته، كما لا يجوز احتجاز أحد بالحبس ولا بالتهديد والترويع. كما أن حرية الاعتقاد والتعبير والرأي والعبادة مصونة ولا يجوز الاعتداء عليها بأي وجه. وكذلك حرية الإعلام وتداول المعلومات وتكوين الأحزاب والجمعيات والشركات. ولا يجوز إجبار أحد على المشاركة في حرب لا يريد المشاركة فيها.
* الحق في الكرامة والتحرر من الخوف: فلا يجوز المساس بكرامة إنسان، حتى وإن أدين بجرم واستحق عقاباً، فالعقوبات تنفذ في حدود نطاقها القانوني.
* المساواة والحق في المشاركة في الحياة العامة على الصعيد السياسي والاجتماعي والاقتصادي مع ضمانات كافية لتكافؤ الفرص وعدم التمييز.
* الحق في التعليم: وتتعهد الدول بكفالة الحق في التعليم مجاناً حتى المرحلة قبل الجامعية، وبتكلفة لا تزيد على 25% من الحد الأدنى للأجور للتعليم الجامعي والدراسات العليا. ولكل إنسان الحق في الحصول على التدريب المهني والمستمر.
* الحق في الملكية الخاصة وحمايتها: لكل إنسان الحق في امتلاك واستخدام والتصرف في توريث ممتلكاته ـ المادية والمعنوية ـ التي حازها بشكل قانوني، وبما لا يخل بضرورات التوزيع المتساوي للموارد لحين تحقيق حد الكفاية.
* الحق في احترام الحياة الخاصة والعائلية.
* الحق في الحصول على عمل مناسب للمؤهلات الشخصية والعلمية والمهارات المكتسبة في إطار التوزيع العادل لفرص العمل، والتكامل العالمي عبر برامج التعليم والتدريب المشتركة لتبادل الأيدي العاملة وفرص العمل.
* حرية التنقل سواء في داخل كل دولة أو عبر الحدود، ولا يجوز أن تصل إجراءات تنظيم السفر إلى منعه كلياً ولا جزئياً، سواء أكان هذا المنع مؤبداً أو لمدد طويلة.
إن وجود هذا الحزب في سياق أممي سيمثل تحدياً وجودياً للمدرسة الواقعية في العلاقات الدولية، التي انطلقت عقب الحرب العالمية الثانية، باعتبارها إحدى "لوازم" الإمبراطورية، والتي تعتبر الدول، وليس المنظمات، هي العوامل الأكثر أهمية في السياسة الدولية، ما يجعلنا ندرك أن عجز المنظمات هو عجز بنيوي، وليس مجرد نفاق ولا تخل، إن الأمم المتحدة عاجزة فعلا في مواجهة الولايات المتحدة، وليست كل القرارات التي تصدر على غير رغبة الإمبراطورية إلا مسارات مؤقتة لتفريغ الغضب وترويض الرفض، لا يسمح لها بالرسوخ ولا بالتطور. كما أن هذه المدرسة تنظر للدولة باعتبارها وحدة واحدة، يعبر عنها صانع القرار في السياسة الخارجية، ولا تكون انعكاسات السياسات الداخلية للدولة حاسمة في مواقفها خارجياً. وهو مبدأ يقرأ البعض آثاره المتعارضة ظاهريا، عندما تدين واشنطن مثلا ممارسات سلطة العسكر القمعية ضد الشعب في داخل مصر وفي الوقت نفسه توقع معها اتفاقات، باعتبارها حالة نفاق، وليس الأمر كذلك، فهو نفاق بنيوي،
وليس مجرد حالة ولا موقف، وهو الناتج الوحيد المحتمل لمبدأ وحدة الدولة في العلاقات الخارجية. ويتبعه مبدأ اعتبار النظام الدولي غابة نتيجة غياب سلطة مركزية تحتكر القوة وتستطيع فرض إرادتها على أطراف المجتمع الدولي، على نحو ما تفعل سلطة الدولة محلياً، وكذلك مبدأ اعتبار العامل الأمني هو العامل الأكثر أهمية في سياسة الدول الخارجية، وبناء عليه فإن الدول، وبمبرر سعيها للحفاظ على أمنها ودعمه، تقيم تحالفاتها على أسس ربما تناقض توجهاتها وتحالفاتها الأخرى (على نحو يبدو غير أخلاقي)، بل ربما تتجاوز خطوط الاستقلال الحمراء نحو ظلال التبعية. وهي البنية التي يتكفل الهيكل الأممي للحزب الثوري باختراقها، نظرا لطبيعته التي يمتزج فيها الداخلي بالخارجي على نحو لا يمكن فصله، وباعتباره منظمة متصلة ببنية الدولة وعابرة لها في الوقت نفسه.
ولتفعيل هذا الدور يجب إقامة شبكة منتظمة للتواصل بين الأحزاب الثورية، على الصعيد الإقليمي والمناطقي والقاري والدولي، عبر اجتماعات دولية منتظمة على مستوى القيادات، وأيضاً دورات ولقاءات مشتركة على مستوى القواعد، وإيجاد إطار للتواصل المستمر من قبل المقيمين في دولة ما وزوارها مع الحزب الثوري الموجود في هذه الدولة، يكون أقرب إلى منتدى، يؤمن التواصل الفكري والاجتماعي.
وأخيراً فإن "الإطار العام" هو ما يمكن الحديث عنه عند الحديث عن البعد الأممي للحزب الثوري، أما بنية الحزب محليا فتبقى تفاصيلها رهناً بأعراف وقوانين وضرورات كل دولة.
ـــــــــــــــــــــــــــ
· من مقال " دولة لم تقم وأخرى لم تسقط" ـ محمد القدوسي ـ الجزيرة نت ـ 21 من مارس/آذار 2011م.
· تقرير منظمة الأمم المتحدة عن وضع التغذية والأمن في العالم خلال العام 2017م.
· دليل المرأة الذكية إلى الاشتراكية والرأسمالية والسوفيتية والفاشية ـ تأليف جورج برنارد شو، ترجمة عمر مكاوي، مراجعة على أدهم، طبعة المركز القومي للترجمة (مصر) 2007م، الجزء الأول، ص 16.
· تقرير منظمة الأمم المتحدة عن وضع التغذية والأمن في العالم خلال العام 2017م.
· ليون تروتسكي ـ مقال "لماذا يعارض الماركسيون الإرهاب الفردي؟" نشر في المجلة النمساوية "المعركة ـ Der Kampf" في نوفمبر/ تشرين الثاني 1911.
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هاف بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.