هدف الشرع الحكيم من مشروعية "الخِطبة" باعتبارها فرصةً أمام طرفَي الزواج ليتعرف كلاهما على الآخر قبل إتمام عقد الزواج، باعتبار أن عقد الزواج في الإسلام قائمٌ على الديمومة والاستمرارية، وباعتبار قضية اختيار "شريك الحياة" أهم القضايا على الإطلاق، لا سيما مع ما يوليه الإسلام من عنايةٍ قصوى لأمر الأسرة، وكل ما يتعلق بشؤونها.
ولمَ وصف الله -تعالى- هذا العقد بالميثاق الغليظ ولم تتناول آيات القرآن الزواج ومقدماته إلا بأنبل العبارات وأرقها إيقاناً بأنّ اختيار الرفيق يتطلب تريثاً وتؤدة، فتارة يقول الله تعالى: "هنّ لباسٌ لكم وأنتم لباسٌ لهنّ"، وأخرى يقول: "ومن آياته أن خلق لكم من أنفسكم أزواجاً لتسكنوا إليها وجعل بينكم مودةً ورحمةً"، وقال صلى الله عليه وسلم: "الدنيا متاع، وخير متاع الدنيا المرأة الصالحة".
إلاّ أنّه مع طغيان المادة وسوادها، ومع انسحاب الأسرة عن الاضطلاع بدورها في تهيئة النشء وإعداده، فضلاً عن حالة "انسحاق المفاهيم" التي لازمت جيلنا، باتت مرحلة الخطوبة مرحلةً عسيرةً متأرجحةً بين الإفراط والتفريط، وباتت "عبئاً"، بدلاً من أن تكون "متنفساً" لجيلٍ يكابد ويصارع مشاق يومية بحثاً عن حقوقه فضلاً عن آماله.
وبعيداً عن معايير الدين والأخلاق والنسب -باعتبارها مما هو معلوم من الخطوبة بالضرورة- فثمّة قواعد حياتية ينبغي مراعاتها حتى تظفر بخطوبةٍ مثمرةٍ تؤدي غرضها وتفي بالمطلوب منها.
أولاً: الواقعية في معايير الاختيار
فالمقصود بالواقعية هنا أي "الوسطية" في عملية الاختيار بلا إفراط ولا تفريط؛ حيث إنّ الكثيرين من المقدمين على الخطوبة يرهقون أنفسهم في البحث، أملاً في الظفر بالأكمل ديناً وخلقاً ونسباً، دون إدراكٍ أنّ ذلك من ضروب المستحيل؛ حيث يكفي أن يمتلك الشخص حظاً مناسباً من الدين والأخلاق وحسن النسب، فضلاً عن حدّ من القواسم المشتركة، ممّا يمكن معه تدشين علاقةٍ سوية.
وممّا يجدرُ ذكرهُ في هذا المقام هو التفرقة بين ما هو ثابت ممّا لا يمكن التنازل فيه وما هو متغير ممّا يمكن فيه الرهان على دورة الأيام، فغاية الأمر هي البحث عن الأنسب لا الأكمل.
وقد أوجز -صلى الله عليه وسلم- الأمر قائلاً: "إذا أتاكم من ترضون دينهُ وخلقهُ فزوجوه، إلا تفعلوا تكن فتنة في الأرض وفساد كبير"، وقال أيضاً: "تُنكَح المرأة لأربع؛ لمالها ولحسبها ولجمالها ولدينها، فاظفر بذات الدين تربت يداك".
وإنما ألحّ -صلى الله عليه وسلم- على بُعد "الدين" في أمر الزواج؛ لأنّ ما سواه زائل، فالجمال يخبو، والمال ظلّ زائل، بينما "الدين وحسن التربية" هما ما ينفع ويمكث في الأرض.
ثانياً: وجود المرجعية
ففترة الخطوبة في فترة "تحدياتٍ" بامتياز، وحداثة الخبرة من كلا الطرفين تفرض وجود "مرجعية" يرتكن إليها الطرفان حال تأزّم الأمور ممّن نتوسم فيه الثقة والتجرّد والحكمة، وهذه المرجعية ربما تتجسّد في مسؤولٍ أو صديقٍ مشتركٍ أو غير ذلك ممن يلقى قبولاً وارتياحاً من الطرفين.
فأهمية المرجعية تكمنُ في كونه مبصّراً بالأمور ومستشرفاً لآفاق العلاقة وصوتاً للعقل في وقتٍ تجيش فيه العاطفة، وقادراً على أن يُسمع الطرفين ما لا يريدان سماعه، فضلاً عن مصداقيته التي توجب على الطرفين الإذعان والقبول.
ثالثاً: تحييد كافة الأطراف غير الفاعلة
فمرحلة الخطوبة هي مرحلة "خصوصية" يحتاج فيها الطرفان إلى الهدوء والانكفاء على تلمّس طباعهما دون تدخّلٍ من هنا أو تطفّلٍ من هناك، لا سيما أنّ كثيراً من "المتداخلين" تنقصهم "الحكمة"، وإن لم يخلُ من "إخلاص"، فكلا الطرفين يجب أن يكونا على درجةٍ من الفهم، يوقنا معه أنّ علاقتهما أسمى من أن تكون حديثاً تلوكه الألسنة، وأنّه يكفي أن تتحول "الهفوة" إلى "كارثة" باستدعاء أكبر عددٍ من الدخلاء، أمّا الشورى وتداول الآراء فلا بأس في هذا.
رابعاً: تجنّب السيطرة وفرض الشخصية
وهذا الأمر أظهرُ ما يكون في الرجل؛ حيث يعتبر ذلك من دعائم الشخصية ودلائل الاستقلالية دون أي اعتبار للطرف الآخر، ودون فهمٍ أنّ الرجولة الحقّة تتطلب حواراً وتداولاً واحتواءً، والإذعان للحق حال ظهوره وإن خالف الهوى، وأنّ ضعف المرأة وذوبان شخصيتها دليل على "رجولةٍ خائرة"، وأنّ التطابق التام هو " موت إكلينيكي" للعلاقة، وأنّ التسلط ربما يصلح في "العسكرية"، لكن لا يصلح في "فقه النفوس".
خامساً: البُعد عن التنميط والمقارنة
فكلا الطرفين يدخل العلاقة مستدعياً ما عداها من تجارب أخرى دون إدراكٍ أن العلاقات وإن تماثلت في بعض جوانبها، لكنها لا تخلو من خصوصية، وأنّ المقارنات -في غالبها- بحث عن النقص وطلب للمفقود، وأنّ الابتسامات الظاهرة لا تُنبئ بالضرورة عن سعادةٍ حقيقية.
فلتؤمن بأنك صاحب تجربتك وصانعها على عينك، وأنّ المقارنة ما هي إلا استدعاء للجحيم إلى عتبة العلاقة.
أمّا إن كانت المقارنة بقصد التعرف على الأخطاء، والسعي لعلاجها، والعمل على توفير بيئة "آمنة" للعلاقة، فهذا من ضرورات الأمر ولوازمه.
سادساً: التغافل
فمن أهم مهددات أية علاقة إنسانية – لا سيما الخطوبة والزواج – هو ترصّد الأخطاء وتتبع الهفوات وإعمال "المنظور الملائكي" على تصرفات الآخر، دون أي إدراك أنّ التدافع دليل على صحة العلاقة، وأنّ المكتسب الأهم من فترة الخطوبة هو تعلم "إدارة الخلافات"، وأنّ الطرف المتغافل ليس بالضرورة الطرف الأضعف، بل ربما الأبقى والأحرص على العلاقة، وأنّ الإيمان بمشروعكما المشترك يتطلب بذلاً وتغافلاً وغضّاً للطرف كلمّا أمكن ذلك.
تقدّم المغيرة بن شعبة لخطبة فتاة من أفضل قومها حسباً وجمالاً، ونافسهُ فيها شاب قريب من سنّها وجمالها، فلمّا تبين للمغيرة أنها ترجح الشاب الوسيم عليه بادر الشاب بالسؤال -وهي تسمعهما- قائلاً: ما شأنك في بيتك يا ابن أخي؟ فقال الشاب: "لا تسقط من كفّي خردلة"، أي: لا يفوّت أمراً هيناً أو عظيماً، فابتسم المغيرة وقال: "أمّا أنا فإني أبتدر البدرة في البيت لا أعلم عنها حتى يسألوني غيرها"، فكانت الفتاة من نصيب المغيرة.
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هاف بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.