بين عشية وضحاها، وجدت نفسي مشوشة دائمة الحزن، الدنيا استحالت في ناظري لظلام حالك، أبكي بلا انقطاع، حولي الجميع يتحدثون ويضحكون ويصخبون، وأنا بينهم أنفصل تماماً عنهم، وأغرق في عالمي الخاص شديد السواد وكأنني وحدي في جزيرة نائية لا أثر فيها لبشر، ثم أغوص أكثر فأغدو كمن تاه وحيداً في متاهة من الأنفاق المتصلة شديدة الظلمة، يفتح إحداها على الآخر، وكأنني أسير فيها من دون انقطاع أو توقف ودون أن التفت للوراء.. فقط أريد أن أمضي في سبيلي دون أن أعرف إلى أين.. أو كيف أو لماذا أو متى.. حيرة.. لا مبالاة.. بطء في الاستجابة.. أفكار حول الموت والمقابر تطاردني تقبض على تفكيري بقوة الحديد وتأبى الابتعاد عني.
وفي الوقت ذاته لا أستطيع الوصول إلى نقطة بعينها، فآلفها أو حتى أتمكن من لمح بصيص من الأمل من خلالها، فيمسي الخوف هو سيد الموقف في داخلي، خوف من مجهول لم يأتِ بعد ولا أدري كنهه.. استعصى عليَّ النوم، واختفى الفرح ومرادفاته من قاموسي وذاكرتي لتحل محلها مفردات كثيرة مقيتة على النفس: ظلام، حزن، بكاء، يأس، خوف، شعور بالفراغ، انعدام الثقة بكل شيء، صداع، انخفاض دائم في الطاقة اللازمة للقيام بأية نشاطات يومية اعتدت القيام بها، أضف لكل ذلك أعراضاً أخرى كثيرة توجه أصابع الاتهام إلى مرض ما، دون أن يستطيع الطبيب تحديد مرض عضوي واضح.
وقفت على سجادتي.. رفعت يدي إلى السماء.. وبدلاً من أن تنساب كلمات روحي المعذبة التي طالتها اللعنة؛ لتطلب من ربي الكثير.. فتطلب منه أن يبدد بقدرته ما أعاني ويعلمه، فيعيد لي الأمل الذي ينير دروب حياتي، بقوله: كن فيكون، إذا بوساوس وشكوك كثيرة تقذف أسئلتها الجدلية العقيمة في عقلي فتشغلني عن ما وقفت لأجله، وتفرض على عقلي نوعاً من الحصار القاتل المميت: هل أنا موجودة حقاً؟ ما الذي يثبت لي ذلك؟ من أنا؟ لماذا أنا موجودة؟ من أجل ماذا؟ ولماذا الآن تحديداً؟.. إلخ، أصابني الرعب أكثر: ماذا حلَّ بي؟ هل ذاب الإيمان داخل نفسي كما تذوب الشمعة تحت حرارة الفتيل المشتعل في جوفها؟ أتكون هذه الوساوس قد بددت إيماني كما يبدد النور الظلام؟ أهو شيطان قد أحكم قبضته على قلبي أم أنها وصفة سحر حاكها لي أحدهم في دجى ليلٍ مظلم فأصابت إيمان قلبي وسكينة روحي في مقتل؟ أتبخرت ثقتي بنفسي يا تُرى؟ أم أنني الشقية التي لم تشبع شقاءً فلجأت إلى الكفر ليكون آخر عهدها بالحياة؟ أأكون قد فقدت إرادتي التي طالما آمنت بقدراتها الفذة على صنع الحياة والسعادة والنجاح، واجتياز المستحيل؟ أم أنه الضعف والوهن والانكسار قد ألحق بنفسي الهزيمة بعد أن جرها إلى مستنقعه الضحل ورواها من شعوذته المجنونة؟
صرخت بملء جوارحي: ساعدني يا رب.. ليس لي سواك.. أحسست بصدى صوتي يعود إليَّ مرتداً من جدران غرفتي التي أعتقل فيها ذاتي.. دون أن يتمكن من الانطلاق خارج قضبان الخوف التي تضرب نفسها حولي في أعماق الأرض وترتفع إلى عنان السماء مشكِّلةً حولي دائرة من الاكتئاب يصعب الفكاك من قيودها الصلبة.
خفت على عقلي: أجننت أنا؟ لا أبداً، ما هكذا تورد الإبل يا امرأة.. لا تفهميني خطاً فأنا أقصد، أنني أستبعد ذلك.. حسناً.. بِمَ تفسرين ما يحدث لك إذن؟ ربما يكون جنوناً.. هو احتمال غير بعيد.. ألم تتأكدي بعد؟ بل هو هكذا.. أجل هو الجنون بعينه ما أعاني.. ويسميه الناس جنوناً ما أطبق قبضته على عقلي.. وسماه الطبيب يوماً اكتئاباً.
رباه ساعدني.. ماذا أفعل؟ أأُبعد الأفكار السوداء عن رأسي؟ كيف يكون ذلك وهي التي تأتيني رغماً عني وتلتصق بخلايا ذهني العصبية وتنقلب بالبطش وبقوة السلاح على كل القوى التي كانت تحكمني وتبقيني في صف العقلاء؟ أأُصر على نفسي أن تعود إلى سابق عهدها؟ كيف يكون ذلك وأنا أشعر بعجزي أمام قوة أقوى بكثير من قوتي؟ قوة فرضت نفسها عليَّ واعتقلتني في غياهب سجونها وعزلتني في زنزانة العزل الانفرادي بعيداً عن كل البشر..
أخذت أصرخ وأستغيث: ما العمل؟ أنا لست سوية أنا بحاجة للمساعدة.. أرجوكم يا أهلي، أرجوكم يا أحبتي، أرجوكم يا أصدقائي، ساعدوني.. أنقذوني.. قبل أن أجيب الأفكار السوداء التي تسحبني إلى وسط دوامتها بقوة، وتبذل ما بوسعها لإقناعي بأن ألقي نفسي من فوق الطابق السابع في العمارة التي أسكنها، أو أن أشرب علبة المبيد الحشري التي يستعملها زوجي لرش حقله، أو أغرس سكيناً في صدري لترتاح نفسي المعذبة وتنتهي عذابات امرأة وقعت في يوم مضى بين فكَّي الاكتئاب دون أن تجد من يجيب صرخات استغاثتها وينقذها منه ويعيدها للحياة مرة أخرى.. أرجوكم أنقذوني قبل فوات الأوان..
ملحوظة: التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.