إنه لأمر يبعث على الأمل، ذلك أن نقر بأن ثمة آفة نعانيها، فالإقرار بالمشكلة هو بمثابة الحلقة الأولى في سلسلة الوصول إلى العلاج المجدي الفعال لتلك المعضلة التي نتداعى منها، فمن طبائع الأشياء أننا إذا تمكنا من التشخيص السليم للمرض، فإننا بذلك سنقوم بتوصيف الحالة بالضرورة على نحو جيد؛ ومن ثم سننجح في دحر ما نعانيه من إشكاليات.
فمصر تعاني إشكالية حقيقية؛ ألا وهي الاضمحلال الذي اعترى المنظومة التعليمية خلال العقود الأخيرة، فتردِّي العملية التعليمية في البلاد بات واضحاً كفلق الصبح، ويتجلى هذا التردي على نحو كاشف في الانحطاط والتدهور اللذين لحقا بنا على كل الأصعدة.
اللافت أن المسؤولين عن الملف التعليمي في مصر يدركون أن هناك إشكاليات جمة في التعليم تعوق دون تقدُّم البلاد ونهوضها، كما أشرت في المقدمة، لكن الطامة الكبرى تتمثل في أن هؤلاء المسؤولين يتعاطون مع هذا التردي والانهيار بنظرية ربة المنزل (وجع بطني ولا دلق الطبيخ).
غير أنهم لا يفطنون إلى أن تدهور التعليم ليس طبخة باردة فاسدة يمكن تناولها على عيبها وما بها من خروق، وأن الأثر الناجم عن تلك الطبخة لن يتعدى الألم لمدة دقائق والسلام..
يا سادة، تدهور التعليم آثاره أعمق من ذلك، فنتائجه كارثية بكل ما تحمله الكلمة من معنى، والفاتورة التي سنبذلها نظير التغاضي عن هيكلة المنظومة التعليمية باهظة جداً لن نتحملها.
تلك الفاتورة ستتمثل في أننا سنظل نعاني التخلف والفقر والمرض والجهل قروناً، وكلما أرجأنا الشروع في حلول جذرية لمشكلة التعليم سوف نبقى في هذا المستنقع، ولن نجد من يُلقي حجراً ليساعد في تحريك تلك المياه الراكدة بالمستنقع الذي نحن فيه.
إذا لم نساعد أنفسنا، فلن يساعدنا أحد، فالأعداء يبذلون الغالي والنفيس في سبيل أن تبقى المنظومة التعليمية على النحو المهترئ الذي هي عليه الآن.
بيت القصيد أنه لن تجدي أية مسكنات في حلحلة الوضع التعليمي الذي نحن عليه الآن، فالمسكنات في مثل هذه المراحل المتأخرة التي أصبح عليها التعليم، لن تجعل الحالة حتى مستقرة؛ بل الأمر سيتفاقم إلى ما هو أسوأ.
غير أن الحل الأمثل نحو النهوض بالتعليم هو الجراحة العاجلة للأزمة التي نمر بها، وتتمثل هذه الجراحة في إعادة الهيكلة الحقيقية لمنظومة التعليم برمتها، ابتداء من المناهج والمضامين العلمية العقيمة، التي لم يطرأ عليها أي تنقيح منذ عقود والتي تقوم بالأساس على الحفظ والتلقين دون الفهم والاستيعاب.
وهو الأمر الذي ينعكس بشكل سلبي على العنصر الأول والمستهدف من العملية وهو العنصر البشري الذي يجري إعداده لخدمة الوطن وهو الطالب، فيقضي سنوات في كنف هذه المناهج ويتخرج ليجد نفسه في حالة من اللاتزان الحقيقي، تخامره الدهشة؛ لكونه يجد أن حياته الدراسية لم تعُد عليه بالنفع عندما ينغمس في الحياة العملية.
فإنه لمن الضحالة الفكرية، أن نقصر مضمون الهيكلة على تنقيح المناهج فقط؛ بل يجب أن يتزامن مع ذلك إيلاء الكوادر البشرية المسؤولة عن تعليم أبنائنا اكتراثاً واسعاً، وأن نوفر لهم الإمكانات اللازمة والضرورية التي توفر لهم مناخاً مناسباً يدفعهم نحو تسخير كل ما يمتلكون من قدرات ذهنية وأدائية في سبيل تقديمها، وأقصد بطبيعة الحال بالكوادر البشرية، المعلمين.
إنه لمن نافلة القول، أن أؤكد أن التعليم أمن قومي، والاهتمام به سيعظّم من قدراتنا على الحفاظ على استقرارنا وأمننا، فإذا استطعنا أن ننهض بالتعليم فسيتمخض عن ذلك أننا سنمتلك سلاحنا، والسلاح هو من أساسيات الأمن القومي، وبنهوضنا تعليمياً سنُنتج غذاءنا ودواءنا، وهما أيضاً من أساسيات الأمن القومي.
كل هذه المؤشرات الإيجابية، التي هي نتيجة طبيعية ومتوقَّعة إذا ما قمنا بالتمحيص بكل عناصر العملية التعليمية؛ لذا ينبغي أن نسرع في إجراء هذه الجراحة، التي نحن بأمسّ الحاجه إليها.
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هاف بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.