ماذا أردت أن أقول، نعم كان ذلك منذ زمن طويل مر من عمري، أراه أمامي كشريط فيلم. كنت في العاشرة عندما كنت أذهب إلى نادي الرماية مع والدي وإخوتي على أطراف مدينتي بورفؤاد، نصطاد الطيور في سماء الأرض الشاسعة الممتده هناك. كانت بور فؤاد ما زالت في المهد.. سكانها قليلو العدد يعرفون بعضهم بعضاً. الناس طيبون.. كنّا نهبط بوجوهنا حياء إذا مرت فتاة أمامنا، لو تجرأ أحدنا ونظر نحو بنتٍ تسير في الشارع، لافتضح أمره ووصل خبر جريمته التي ارتكبها إلى والده قبل أن يدلف عتبة المنزل ليواجَه بنظراته الغاضبة..
كل شيء بسيط وجميل، كانت الدنيا بخير والناس سعداء لا يشكون شيئاً.
كانت حياة شيقة عشت دلالاً وافراً من والديّ أنا وإخوتي، كان والدي مهندساً بحرياً، ويعمل مدرباً في نادي التجديف.
كنت في الثالثة عشر عندما بدأت حرب 67، دهنّا مصابيح العربات وزجاج منزلنا باللون الأزرق واختبأتا بداخله لما سمعنا صافرات الإنذار تدوي في الأرجاء، بدوت خائفاً أنظر لوالدي وهو يحاول الإنصات لصوت أحمد سعيد في راديو صوت العرب مع أزيز الطائرات والقذائف حولنا. مضت أيام قليلة حتى بدت أرتال الدبابات المنسحبة من سيناء مع بعض القطع الأخرى من الأسلحة تتراءى حولنا.
أحضَروا إلى منزلنا ثلاثة قطع من صواريخ سام المضادة للطائرات وخبأوها تحت الأشجار في الجوار. بدت وجوه الجنود العابرين أمامنا من سيناء تحكي بصمت تفاصيل الهزيمة، استشهد الآلاف منهم وجرح وأسر عشرات الآلاف، كانت الصدمة أكبر من أن توصف وبدى كل شيء قاتماً حزيناً، عيون والدي وجدي وأهل البلد منكسرة..
كنّا نمني النفس بتحرير القدس، فخسرنا سيناء ودمرت معظم مطاراتنا وطائراتنا ودبابات جيشنا، حاولوا تخفيف هول الصدمة على الناس فخرجوا بمصطلح تجميلي للهزيمة أسموه النكسة، نكسة إسم رشيق خفيف على الأذن والنفس، أترى كم هو مفيد وفرة المصطلحات في لغتنا العربية؟!
أتعلم، لقد كانت تلك الهزيمة أقصد النكسة، مريرة لكنها لم تمت فينا روح المواجهة، بل زادت حافزاً إضافياً لننتقم ونسترد كرامتنا ونعيد الاعتبار لمقاتلينا. صدقني.. الجندي المصري معدنه أصيل، لكنه لم يُعطَ فرصة حقيقية ليقاتل. تحمل ذنب قيادة مترهلة لم تمتلك الخطة ولا الإرادة على المواجهة، لقد وجد المقاتلون دباباتهم تُباد على الأرض من الجو، ثم ما لبثت دبابات العدو لتدمر ما تبقى منها بعدما فقد الجيش غطاء الجو في معركة لم تكن متكافئة البتة، لم يكن هناك حتى خطة انسحاب، قتل الآلاف بسبب القرارات الفوضوية للقيادة العسكرية التي لم تعرف ما تفعل غير التفنن في التخبط والسوء. وحده الجنرال الشاذلي الذي استطاع الانسحاب بحرفية بكتيبته العسكرية، والخروج بها من سيناء بحد أدنى من الخسائر.
مدينتي بورفؤاد، نعم مدينتي.. أعادت بعض كرامتنا عندما حاول العدو التقدم نحوها لاحتلالها، حيث كانت آخر منطقة من سيناء خارج سيطرته. كان هناك ثلاثون جندياً، لا بل ثلاثون بطلاً من قوات الصاعقة تصدوا لدبابات العدو وأوقعوا فيها خسائر فادحة كانت كفيلة في إفشال هجومهم ودحرهم عن بورفؤاد، لقد قلت لك الجندي المصري لم يأخذ فرصته ليبين معدنه القتالي العنيد.
لم يكن ذلك كل شيء قلت لك لقد استعدنا روح المبادرة فيما بدت حرب استنزاف طويلة تتشكل في ذلك الحين. كنّا نشاهد فيلماً يحكي قصة تلك الثائرة الجزائرية جميلة بوحريد خرجنا نهتف للثورة الجزائرية ونتحدى الهزيمة كنّا متقدين نتطلع لمواجهة حقيقية. وقفنا على أحد الجسور المائية عندما مرت أمامنا فرقاطات بحرية مصرية تبحر بسرعة مجنونة كادت تغرق الجسر الذي نقف عليه. سمعنا خبر تدمير وإغراق بارجة العدو"إيلات" في البحر المتوسط بعد معركة شرسة خاضها جنود البحرية معها. كان انتصاراً جديداً وأملاً آخراً.
جن جنون العدو وبدأ على الفور يشن غارات انتقامية بطائراته على بورفؤاد. ركضت مرتعداً عبر الجسر، صوت اصطكاك جزمتي بطرفها الحديدي في الأرض غلب صمت المكان الخالي من أي حركة وهز أرجاءها قبل أن تغزوها أصوات الطائرات التي بدأت تتراءى لي كأشباح تحجب شعاع الشمس في السماء، فيما أخذت قنابلها تنهمر على الأرض تهزها كما الزلزال. وتنشر النار براً وبحراً..
أتعلم؟.. أعترف أني خفت كثيراً بينما كنت أركض وسط الموت طلباً للنجاة، لكن شيئاً بداخلي كان يصرخ متحدياً، يبصق على خيالات آلات القتل تمر عبر الحقول من فوق رأسي ويتحداها بنظرة ثابتة تضحك بسخرية واستهانة تقول بصمت لا استسلام.
بعد وقت وجيز كان الجنرال الشاذلي نفسه هو من يقود عمليات الصاعقة في حرب الاستنزاف وهو من يضع خطة العبور في حرب أكتوبر عندما استعدنا كرامتنا وثأرنا للهزيمة. عبر أولاد الشاذلي خط بارليف، ذلك الحصن الذي تبجح فيه العدو بأنه غير قابل للاختراق، وأنه أقوى من خط ماجينو. لقد قلت لك عندما تتوفر الظروف والخطة المناسبة والقيادة الذكية لجنودنا فلن يخذلوك، سيموتون من أجل النصر وهكذا كان. لكن ماذا كان نصيب الشاذلي مما فعل؟! كافأوه بعزله ثم نفيه وسجنه، أهكذا يجزى الأبطال نظير صنيعهم؟!
لم يطل مكوثنا في الوطن، حيث قرر والدي الرحيل، حزمنا حقائبنا وغادرنا بورفؤاد، تاركين الأهل والأرض وذكريات الصبا، حيث انتهى بِنَا المطاف في إحدى ضواحي سدني في أستراليا.. طفل لم يتجاوز الرابعة عشر، من لغة مختلفة وثقافة مغايرة وبلد آخر. وجدت نفسي وحيداً معزولاً وسط طلاب الصف الإعدادي، أتعرض للضرب والاستهزاء من بعض العنصريين منهم، كم كان ذلك صعباً وشاقاً..
لكن إصراراً بداخلي حثني على الصمود. لم تكن الطريق مفروشة بالورود، كنت أنهي دوامي المدرسي وأذهب للعمل في محطة بنزين، عليَّ لوحدي ملء العربة وفحص الزيت ونفخ العجلات، ثم أخذ النقود من الزبائن حيث أذهب لوضعها داخل آلة البيع وإعادة الفكة للزبون بعد أن أحسب دون آلة حاسبة تكاليف كل هذا. لقد قلت لك لم يكن أي شيء هيناً كانت الظروف صعبة وشاقة، لكني الآن أمامك أسرد لك قصتي بعد خمسة وأربعين سنة من العمل الشاق والدؤوب حتى نجحت وأنجزت، وهأنا قد تجاوزت الستين من عمري، شكراً لله.
هذا البلد كما تعطيه وتكد فيه يجازيك بقدر عطائك، أستراليا بلد خير.. أعلم أن أحوالها الاقتصادية قد تراجعت الآن، ولم تعد كما كانت من قبل، لكنها قدمت لنا كثيراً نحن المهاجرين.. صدقني من لا يشكر الناس لا يشكر الله. الدول تقاس بحجم الرعاية والخدمة التي تقدمها للناس، وهذا البلد وفر لنا ولأولادنا كل الخير، طبابة تعليم ورعاية اجتماعية والكثير الكثير.. كثيراً ما أتألم عندما أقارن هذا البلد ببلادنا العربية وحالها المزري من الفساد والفقر والبطالة، لكن ما بالإمكان فعل شيء سوى الحزن والكمد والحسرة.
كم كنت سأسعد لو حررنا القدس واستعدنا فلسطين كما كانت أحلام الطفل في بورفؤاد. أنتم -الفلسطينيين- تستحقون كل الخير، شعب عظيم تحمل الظلم والقهر والشتات، ظل يقاوم ليكون شوكة في حلق الاحتلال، لم تلاقوا من أحد النصير لقد خذلوكم وتآمروا عليكم جميعهم لقد مارسوا عليكم أدنأ وأقذر الأساليب.
يريدون أن يُطفئوا قضيتكم إلى الأبد. صدقني لقد سمعت أحد الأئمة يقول إن مقياس دين المسلم يرتبط بانتمائه لفلسطين والقدس، قديماً كُنتُم تقولون إن البوصلة التي لا تشير للقدس مشبوهة، هم حتى لا يريدون أن يكون هناك لا بوصلة ولا قدس ولا يحزنون، يريدون شطب اسم فلسطين من مقررات مدارسهم، وإزالة أي قداسة دينية عنها.
ظلوا -ليبرروا فشلهم وتخاذلهم في نصرتكم- يتهمونكم بتفريطكم بأرضكم وبيعها لليهود، صدقني من يبيع أرضه لليهود لا يمكن أن يعيش في خيم الشعر وصفائح الزينكو، ويقف في طوابير لا تنتهي بمخيمات الشتات العربي في صقيع البرد وحر الشمس كي يحصل على كيس سكر وأرز ليسد جوع أطفاله..
صدقني كان والدي وجدي يحدثاني دائماً كيف كانا يذهبان إلى القدس قبل الاحتلال، عندما كان وطننا العربي واحداً، فيلاقيهم أهلها هناك بالترحاب وكرم الضيافة، حتى لا يتركوهم ينفقون شيئاً مما ادخروه لرحلتهم، فيعودون لمصر وما زالت أموالهم في جيوبهم كما كانت قبل أن يسافروا.
لقد مرت عليّ كل هذه السنين التي قصصتها لك وأنا أحلم بالقدس، طالما بقيت أتخيل نفسي ماشياً في أزقتها أصلي في المسجد الأقصى، أجلس على مقاهيها أحدث أهلها. أرى والدي وجدي يجلسان هناك في مكان قريب من المسجد الأقصى فرحين يتلوان القرآن تحت ظلال إحدى الشجرات في الحرم، أناديهما فلا يسمعان أصرخ فلا يجيبان، فأنظر إلى سعادتهما بينما أنصت لهما.
أتعلم لقد مر وقت طويل منذ زرت الوطن، لذلك في رحلتي القادمة إلى بورفؤاد سأعرج على القدس سيراً على خطى أبي وجدي..
عَلِّي أجدهما هناك…
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.