بعد أسابيع من انطلاق الثورة اتصل بي صديق كان يعمل مع محمد مخلوف في شركة الطيران السورية وقال لي: إذا أردتم إنهاك عصابة بشار فعليكم أن تستهدفوا "رئيس مجلس إدارتها" محمد مخلوف ومن السهل جدا هز كيانه لأنه لم يكن يتصور في أي يوم ولو للحظة واحدة أن تخرج مظاهرات تطالب بإسقاط النظام ويعتقد أنه وأولاده هم أركان النظام من رأسه حتى أسفل قدميه.
وقتها كان محمد مخلوف هو من يتصدر طاولة اجتماعات إدارة "الأزمة" وبجانبه أنيسة مخلوف وعلى طرفي الطاولة كان يجلس بشار وماهر وبشرى وفي الطرف المقابل كان يجلس رامي وحافظ مخلوف وبالنتيجة أربعة من الـ مخلوف مقابل ثلاثة من الـ الأسد بل لهم أيضا رئاسة الاجتماع وربما كان هذا المشهد يوضح الأسباب التي أدت إلى رسم إشارات الاستفهام حول أسباب مقتل باسل الأسد في حادث السير الشهير وتوجيه أصابع الاتهام إلى محمد مخلوف الذي أراد إزاحة من يقف عائقا أمام طموح أسرته المالي والسياسي في إدارة الحكم.
في أواخر عام 1985 هاتفني الدكتور محمد كفا مدير عام مؤسسة التبغ وتمنى علي أن أحضر إلى مكتبه لأمر هام جدا واستغربت الطلب لأنه لم تربطني به صداقة ولا معرفة جيدة وكان لم يمض على تعيينه أكثر من أسابيع عدة في هذا الموقع خلفا لـمحمد مخلوف شقيق زوجة حافظ الأسد ووالد إمبراطور الفساد رامي مخلوف الذي كان ومازال يردد أن أمن إسرائيل هو من أمن سوريا. سألني محمد كفا بلهفة: هل تربطك صلة ما بـمحمد مخلوف.. هو يريد إدخالي السجن بتهمة الفساد وهددني بذلك وأنا أعلم أنه قادر على تنفيذ تهديده!! قلت: ولكن من أين أتى فسادك ولم يمض على تعيينك بضعة أسابيع وأنت كما تقول لم توقع بعد على أي عقد أو صفقة؟! تهمة الفساد هي لإدخالي السجن ولكنه -أضاف- السجن هو الضريبة التي يتوجب علي دفعها بسبب ثرثرة زوجتي واتهاماتها الموجهة له وأنا بريء منها ومن كلامها.
عندما استلم محمد كفا منصبه كمدير عام لمؤسسة التبغ بدأت زوجته -رئيسة نقابة المواد الغذائية- بسرد الحكايات عن صفقات الفساد التي اكتشفها زوجها معتقدة أن سطوة محمد مخلوف قد انتهت بعزله من منصبه وتعيينه مديرا عاما للمصرف العقاري وهو الكنز الذي يحتوي على ثروات كبرى خاصة من خلال عمليات الإقراض الوهمية التي تتم بعد استلامه للبنك وقدرت بمئات ملايين الليرات السورية.
سألته: هل حاولت الاتصال به وتقديم الاعتذار لحل هذه المشكلة؟ أكثر من مرة ولكنه يرفض الرد على اتصالاتي ورفض استقبالي في مكتبه ورفض أيضا كل الوساطات التي أرسلتها له وهو مصر على الانتقام. وبعد أيام من هذا اللقاء أودع محمد كفا السجن بتهمة الفساد وحل مكانه قريب عائلة الأسد فيصل سماق لتعود معه مؤسسة التبغ إلى عرين الأسد.
ولكن لماذا أقيل محمد مخلوف من منصبه؟.. محمد مخلوف الذي تقدر ثروة عائلته الصغيرة بأكثر من ثماني مليارات دولار -أغنى من أمير الكويت ومن ملك المغرب- بدأ حياته موظفا صغيرا في شركة الطيران السورية وبعد الانقلاب العسكري الذي قاده حافظ الأسد جرى تعيينه في عام 1972 مديرا عاما لمؤسسة التبغ وكان أهم ما أنجزه هو حصر جميع وكالات شركات السجائر الأجنبية باسمه بدلا من الوكلاء التجاريين السابقين. حصر الوكالات بشخصه بعد أن رفض الوكلاء دفع عمولة مالية له وأصدر قرارا بوقف استيراد السجائر عبر وكلاء وحصر استيرادها بمؤسسة التبغ وفرض على الشركات المصنعة عمولة قدرها 10% فوافقت لكي لاتخسر السوق السورية ثم طلب رفع نسبة العمولة وعندما رفضت الشركات الإذعان لمطالبه أصدر قرارا بوقف استيراد السجائر الأجنبية دعما للاقتصاد الوطني كما ادعى.
وقف الاستيراد كان يعني حصول محمد مخلوف وعائلة الأسد على كنز لاينضب وجرى تشكيل عصابات لتهريب السجائر من الدول المجاورة وغير المجاورة وكذلك عصابات للتوزيع في المدن والأرياف وعرفت هذه العصابات بـ"الشبيحة" لأنها كانت تستخدم سيارات "مفيمة"لا تكشف من بداخله ووجود سيارة "مفيمة" في أي مكان كان يعني أنه ممنوع توقيفها أو تفتيشها وهؤلاء هم الآن قادة شبيحة الأسد الذين يقتلون الشعب السوري.
الشكاوى التي رفعتها الشركات الأجنبية ضد محمد مخلوف بقيت في أدراج القصر الجمهوري حتى ظهر باسل الأسد وطلب من خاله محمد مخلوف مقاسمته في الأرباح وعندما رفض صدر قرار نقله إلى المصرف العقاري وقيل وقتذاك إن حافظ الأسد فعل ذلك بعد أن تدخلت السفارات الأجنبية لصالح شركاتها ورفعت شكاوى ضده إلى الخارجية السورية وإلى رئاسة الحكومة وكان المسكين عبد الرؤوف الكسم رئيس الوزراء يعتقد أنه انتصر على محمد مخلوف عندما وجه بإصدار قرار إقالته من مؤسسة التبغ وعندما قتل باسل الأسد في حادث سير حامت الشبهات كما ذكرت حول خاله محمد مخلوف وقيل إنه رحّله إلى القبر لأنه كان يقف عقبة أمام طموحاته وأسرته.
بعد فترة طويلة على سجنه هاتفتني ذات مساء زوجة محمد كفا وقالت إن محمد مخلوف وضع شرطا قاسيا للإفراج عن زوجي ويريدني أن أدفع الفاتورة ولن أدفعها مهما كانت النتائج والنتيجة كانت أنه بقي في السجن إلى اللحظات التي كان يتوجب إخراجه منه بعد أن نهش الورم الخبيث جسده ثم توفي بعدها بفترة قصيرة.
حادثتان لابد من تسجيلهما أخيرا وتتعلقان بمافيا التبغ في سوريا: قبل الغزو الأمريكي للعراق أرسل العميد ذو الهمة شاليش مرافق بشار الأسد وابن عمته كمية كبيرة من السجائر الأجنبية إلى العراق وقال للشبيحة الذين ينقلونها: إذا واجهتكم أي متاعب عليكم أن تتصلوا بـعدي صدام حسين وتقولوا له إن البضاعة للجنرال ذو الهمة شاليش. وعندما ضبطت البضاعة في العراق تدخل عدي وقال للشبيحة بلغوا تحياتي للجنرال ذو الهمة وسأشتري منه هذه الصفقة ولكن عليه أن يتوقف عن إرسال التبغ لأنني أحتكر تجارته ويمكنه أن يتاجر بنوع آخر من البضائع كالبيض والمازوت والمنسوجات والكونسروة وهذا ماكان واستمر لفترة طويلة.
بعد الغزو الأمريكي للعراق عام 2003 هرب عدي وشقيقه قصي إلى سوريا فتم اعتقالهما على الحدود السورية وعندما قال لمن اعتقله أن عليه أن يبلغ الجنرال ذو الهمة شاليش بأمر الاعتقال غاب رئيس الدورية لدقائق معدودات قبل أن يقول له: لايوجد في سوريا جنرال اسمه ذو الهمة شاليش وعليك أن تعود أدراجك إلى داخل العراق وهذا ما كان. وقيل بعد ذلك إن ذو الهمة سطا على أموال طائلة بعد أن وعد عدي بتوفير الحماية له ولعائلته في سوريا.
أخيرا وليس آخرا بقي أن نقول إن "السيدة الأولى" أنيسة مخلوف زوجة حافظ الأسد كانت تأتيها كل مساء خميس حصتها من أرباح مافيا التبغ عن طريق فيصل سماق مدير مؤسسة التبغ ولكنها كانت تشترط أن تأخذ نصيبها بـ"الألماس" .
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.