مفاتيح السعادة “1”.. حلاوة روح!

تقول أمي جملة لم أفهمها في حينها، عندما تعجبها صديقة لي تقول عنها "عندها روح"، وإذا لم ترقها أخرى تنفي عنها تلك الصفة، تقطب جبينها وتخفض صوتها وتحرك يديها في انسحاب: "ما عندهاش روح"، كانت تفعل ذلك منذ المرة الأولى التي ترى فيها إحداهن، ودوماً تكون على حق في نهاية المطاف.

عربي بوست
تم النشر: 2018/03/05 الساعة 02:48 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2018/03/05 الساعة 02:48 بتوقيت غرينتش

تقول أمي جملة لم أفهمها في حينها، عندما تعجبها صديقة لي تقول عنها "عندها روح"، وإذا لم ترقها أخرى تنفي عنها تلك الصفة، تقطب جبينها وتخفض صوتها وتحرك يديها في انسحاب: "ما عندهاش روح"، كانت تفعل ذلك منذ المرة الأولى التي ترى فيها إحداهن، ترى تصرفاتها وتتحدث معها قليلاً، أو تراقبها وهي تتكلم ثم تضعها على ميزان الروح، ودوماً تكون على حق في نهاية المطاف.

كنت أفهم ما تعنيه، ولكنني لا أعرف لماذا استخدمت أمي تلك المفردة تحديداً لتشرح عدم ارتياحها لشخص بعينه!

مؤخراً تعلمت أن الروح هي ما يجذبني في البشر أو ينفرني منهم، صرت أقلد أمي، أرى البشر عبر أرواحهم وأجد ترجمتها في كل همسة وكلمة وحركة يقومون بها، بل حتى من دون أن يتحدثوا بات يأمرني سهم "الروح" بمفهوم أمي البسيط.

"ستيفاني" قابلتها في يومي الثاني من التدريب في أحد مراكز اللياقة البدنية.

كان يومي الأول بائساً بين صعوبة التمارين وقلة التركيز وجدية المدربات، وكأننا عدنا للمدرسة من جديد، نظرات ثاقبة ومواعيد للصف وإيماءات سخيفة عند الإخفاق، أضف إلى ذلك شعور بالضآلة أمام مدربات كلهن جمال وقوة ورشاقة ولكن تجمعهن صفة واحدة، ليس لديهن بصمة!

عندما دخلت صفها "وجدت فيها شيئاً مختلفاً، ترتدي ملابس بسيطة، لا تضع أي مساحيق تجميلية، طويلة ورشيقة ولكنها ليست مثالية، تجمع شعرها في الخلف وترتدي دوماً كنزات بأكمام طويلة، لديها قدرة غريبة على تحويل التمارين الصعبة القوية إلى شيء بسيط، تزدحم صفوفها دوماً، تنتقل بين الحركات بخفة وكأنها ترقص.

تتحرك كفراشة خفيفة، تزين ضحكتها ثغرها الواسع باتساع عالمها، تغمض عينيها منتشية وترفع يديها مع كل خطوة بانسجام تام، ترفع صوتها في مرح جلي وتطلق صفارة هادرة وكأنها تنافس دقات الموسيقى الصاخبة التي تنطلق خلفها، تقفز عالياً وتدور حول نفسها في دائرة كاملة وتعود لنقطة انطلاقها من جديد في توازن وثقة، تبتسم وتعيد الكرة مرات ومرات ثم تتوقف فجأة لتطلق نكاتها بخليط بين العربية الركيكة والإنكليزية المختلطة بلكنة بلادها، لتحفزنا على مواصلة التدريب، بعد أن أنهينا أحد الصفوف الصعبة سألتها: أتعرفين ما المميز في صفك؟!
ابتسمت وقالت: أخبريني أنت.

قلت: إنها روحك المرحة، تجعلي الصف يبدو كحفل صاخب، فيمر الوقت سريعاً وتصبح التمارين مجرد تسلية لا عبئاً.
ضحكت وكسا وجهها الخجل، وقالت إنها تهوى عملها وتريد أن تترك لدى من تدربهم إحساساً جميلاً بالمرح والسعادة، فالجميع يستطيعون إيجاد حركات رياضية متناثرة هنا وهناك ولكن الحياة تحتاج منا أن نبقى على اتصال بالبهجة حتى لو كنّا نؤدي عملنا، وأردفت أنها تعلمت ذلك عندما كانت تدرس الأطفال في صفوف الروضة.. هي البراءة إذن.

ربما مررنا بلحظات نرى فيها أناساً للمرة الأولى فنجد حضورهم يجذبنا من دون عناء، ونعايش آخرين لسنوات طويلة ونظل غير قادرين على تخطي مساحات بعينها معهم لا نستطيع أن نبادلهم سوى بضع جمل مقتضبة.

"سارة" لا أستطيع أن أتذكر تحديداً متى التقينا للمرة الأولى ولا حتى كيف صرنا أصدقاء، تلك الفتاة التي تبث روحها راحة وهدوءاً أينما حلت، تصغرني بعامين تقريباً، ربما نختلف عن بَعضنا في تفاصيل كثيرة، ورغم أننا نلتقي مرات محدودة كل عام في زيارات عابرة للبلدة التي أعمل فيها وتزورها هي مع زوجها وأبنائها، إلا أننا صديقتان بكل ما تعنيه الكلمة.

نلتقي سريعاً بضع ساعات، نتحدث قليلاً جداً ولكن حديثنا يكون حقيقياً، صادقاً للغاية، حميمياً لدرجة الإرباك، كأننا تربينا سوياً، لم تفتنا سنوات طويلة تكونت فيها آراؤنا ومواقفنا، لا تلومني على المرات التي لم أهاتفها فيها ولا تلك الحكايات التي فاتتنا.

خجولة هي ومبتسمة دوماً، يلعب أبناؤنا بأريحية ومحبة تشبه حديثنا الهادر خلفهم؛ يتبادلون الأحضان والابتسامات ببساطة وكأنهم كبروا سوياً، متخطين المكان والزمان وحواجز أخرى عديدة تشبه ما تخطيناه نحن!

صغيرة هي ورغم ذلك، تعرضت لمطبات كثيرة في حياتها فخسرت بشراً كثراً وكسبت غيرهم، سافرت واغتربت، بكت وتألمت وفرحت ونالت ما تمنت وضاعت أحلام كثيرة خطتها في دفترها، لكنها ظلت حية رغم ما يفعله الزمن.

طغت روحها على كل تلك التفاصيل والمساحات التي تشغل النساء غالباً، لا تقحم أنفها في التفاصيل الشخصية، لا تتلمس الأخبار لتتسلى بها مع أخريات، تقول ما تشعر به وليس ما يجب أن يُقال، علاقتنا باتت وطيدة رغم المسافات، لمست قلبي وصارت في مساحة ربما شقت على كثيرات قبلها فقط لأنها تملك تلك المنحة الربانية.. الروح النقية.

"شوشو" هكذا أناديها، عندما نلتقي لا أعرف ماذا يحدث، تمضي الأوقات سريعة جداً، من دون موعد أو به، بعد غياب طال أو قصر، أشعر بنفس الحالة، أن ترى روحك في شخص آخر، خليط عجيب منك ومنه.

عندما التقينا للمرة الأولى كان حشداً اجتماعياً للترحيب بشقيقتها، جلس الجميع يتبادلون التحيات ويضحكون ويناقشون موضوعات مهمة، وكانت هي مصدراً غريباً للبهجة والسعادة، خطفت قلبي وقتها وبقينا على تواصل محدود.

مرت الشهور متتابعة وصارت جارتي، توطدت علاقتنا قليلاً، صرنا نلتقي أكثر وبتنا نكتشف شخصياتنا في الواقع أكثر وظلت روحها كما رأيتها أول مرة، ساحرة الكلمات والحلول.

جامحة فيما تريده من الدنيا وزاهدة فيما لم يرقها، لا يوقفها شيء عن مواصلة طريقها الذي يزدان بالنور والبهجة دوماً، ترى الدنيا لعبة ممتعة وخطرة، بسيطة ومبهرة فتختار أي الأدوار ستتلبس وتنتقل بينها في سلاسة ومهارة.

هي الأم لأربعة أطفال تغذيهم بالحب والخيال لا الطعام.. معلمة مبدعة ترى الصف الدراسي مسرحاً لأحلامها فلا تبخل على صغارها بجرعة محبة غير متوقعة فتلقاهم بذراعين مفتوحين لاحتضان خوفهم وقلقهم من هذا العالم؛ وصديقة حقيقية تضحك وتغضب وتشيح بوجهها بعيداً أحياناً، تغدق حباً واهتماماً وثقة وتختلي بنفسها في لحظات الارتباك لتعلن بشجاعة ما تريد… طفلة عابثة في أوقات فراغها من كل تلك المحطات، فهذا لم يمنعها من اقتناص لحظاتها الخاصة لإسعاد نفسها كي تواصل المرح كل يوم بجدية تامة.

عندما تكون في حضرتها فعليك التخلي عن نظرتك العادية للحياة بأريحية فلديك فرصة ذهبية لمشاهدة عالمها ثلاثي الأبعاد، ولكنها تحمل شيئاً آخر فريداً.. روحها الحية.

راقتني كل واحدة لسبب يخص "الروح" ولا يعني ذلك أنهن بلا عيوب، فجميعاً لنا جوانب خفية أو ظاهرة قد لا تعجب الآخرين، ولكنهن يشتركن في ميزة مهمة وهي الحفاوة المطلقة بأرواحهن وسط ضجيج الحياة وجراحها.

تعلمت منهن أن الحياة مهمة صعبة، والبحث عن السعادة فيها أمر مربك ربما يحتاج للمساعدة، ولكنه في البداية يرتبط باختيار من يبقون في حرمنا، فكم من جميلين نمر بهم ولا ندرك قدرهم في وقتها، وكم من سارقي البهجة يخطفون من أيامنا أغلى ما قد نملكه يوماً.

سألت شابة رجلاً حكيماً ذات يوم: هل تبقى أرواحنا كما هي دوما طيبة أو شريرة، ضائعة أو راسخة، وهل نحن فقط من نسيطر عليها؟!

أجابها: الروح رغم نقاء فطرتها تتلون، حتى الأرواح الطيبة تنتكس وتحتاج لعناية، ربما تتغير وتطمس بعض ملامحها على مر الرحلة، تتأرجح بين ما نملكه وما يتركه غيرنا، فهناك من يطبع أرواحنا بظلاله، فيظل يبعدنا عنا حتى نغرق في وحل روحه الضائعة، فيما ينتشلنا البعض الآخر إلى اكتشاف جمال ما خلق الله فينا، فننقي أرواحنا مما يعلق بها، وهنا اختبار لحقيقتنا فينجو من استطاع تخطي ضباب التجارب البائسة ونفض غبارها سريعاً ويمضي.. وربما ضاع آخرون مختارين التيه ولو مؤقتاً، ولذلك جماله أيضاً فهو إما يعلمهم جلال ما كانوا يملكون يوماً أو يدخلهم إلى تجارب لم يعهدوها.

تتنافر الأرواح أو تأتلف، تفرح بوجودك في حرم بعضها وتتوتر في حضرة آخرين، تسير في طريقك مزهواً وتتعثر في صحبة التائهين، بالنهاية سيرحل من لا يجيد الامتزاج بروحك ببساطة تبهرك وتريحه، أو ترحل أنت عن ذاتك فتتعلق بغيرك وتذوب في ظله، فابق مع هؤلاء الذين لا يضعون مزيداً من الأسوار بينك وبين ذاتك.. فالله يمنحنا أقداراً متباينة، ولكن من يمنعهم الله الروح الطيبة يفوتهم الكثير من الجمال.

ذات يوم أخبرنا أستاذنا سراً فقال: "خلي بالكم من روحكم" لم يقصد وقتها هذا المعنى الدارج بأن نحاذر من السقوط أو نبقى متيقظين أثناء القيادة، بل كان يهدف إلى توجيه بوصلتنا إلى الحفاظ على أرواحنا تلك النفحة الالهية.. مساحتنا الفريدة التي لا يمتلكها سوانا.

بين من تعرفهم جيداً وتود بقاءهم ومن تصادفهم في حياتك مساحات واسعة رغم اتساعها يختصرها جمال الروح.

راجع نفسك قليلاً… هل لا تزال روحك حية.. صافية.. نقية.. حقيقية.. أم شوهتها الرحلة.. أم تراك لم تفكر من قبل أي روح تمتلك؟! ومن يستحق البقاء في حَرَمِها؟

ملحوظة:

التدوينات المنشورة في مدونات هاف بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

علامات:
تحميل المزيد