"شارع واحد" يختصر صراعات الشرق الأوسط برمتها، إنه شارع سوريا الواقع بمدينة طرابلس، ثاني أكبر مدن لبنان، التي تعتبر عاصمة الشمال اللبناني، كما توصف بالعاصمة الثانية للبلاد.
تحولت هذه المدينة القريبة من الحدود مع سوريا منذ فترة إلى مسرح لمواجهات جمعت بين حيين اثنين متصارعين، يفصل بينها طريق يحمل اسماً ذا رمزية كبرى، وهو "شارع سوريا"، فبالفعل فالخلاف بين هذين الحيين محوره الموقف من سوريا.
وقد تجول المصور الفوتوغرافي، براندون توزيك، في هذا الشارع منذ يومين، ليوثق أخبار مدينة طرابلس، حسب تقرير لصحيفة Mediapart الفرنسية.
وفقاً للتقرير فإنه لا تزال آثار الطلقات النارية بارزة للعيان على جدران البنايات المتلاصقة فيما بينها، والتي تشقها شوارع ضيقة مبللة بمياه الأمطار الأخيرة.
وشاهد المصور رجلين يشقان شارع سوريا، وبأيديهما فنجان قهوة، فيما يكدُّ أصحاب ورش تصليح السيارات في عملهم، بينما النساء يتفاوضن مع الباعة حول أسعار الطماطم المعروضة في السوق المجاور للشارع.
وفوق أسفلت الشارع، تلاحظ ظل المآذن والمنارات ينعكس على الطرق أكثر من أشعة الشمس نفسها، ليضفي لوحة فنية تلخص حالة أغلب أحياء لبنان. وفي زاوية كل طريق، تتركز دبابة مصفحة إضافة إلى الحضور العسكري المكثف.
22 جولة
يمتد شارع سوريا، بطول كيلومتر واحد، ويفصل بين حيين تبادل سكانهما بطريقة متكررة المواجهات والعنف، (قبل أن تهدأ الأحوال نسبيا قبل نحو عامين جراء تسوية بين القوتين الأساسيتين في لبنان: حزب الله، وتيار المستقبل).
فقد شهدت طرابلس على مدار السنوات التسع الأخيرة حوالي 22 جولة مواجهة دامية بين كل من سكان حي باب التبانة، الذي يقطنه السنة، وبين سكان حي جبل محسن، الذي يعدّ أغلب سكانه من الطائفة العلوية. وقد خلَّفت هذه الاشتباكات قرابة 200 قتيل .
وفي الواقع، هزّ تكرر هذه المواجهات من صورة مدينة طرابلس، ذات الأغلبية السنية، التي لا تبعد سوى 30 كيلومتراً عن الحدود السورية، خاصة أن صدى صوت الحرب السورية أصبح يسمع فيها.
كما أن المدينة محاطة بمخيّمين للاجئين الفلسطينيين، من جملة 12 مخيماً تتوزع في كلّ لبنان، كما تعاني طرابلس من تعثر مشاريع الحكومة التنموية، التي وإن تعددت المبادرات إلا أنها تبقى شحيحة.
وفي أغلب الأحيان، تكون الاختلافات الطائفية أحد أهم أسباب اندلاع الاشتباكات بين الحيين، إذ يُترجم هذا البعد الطائفي حقيقة صراع متجذّر في لبنان، وقائم بالأساس على أسباب سياسية. وبالتالي، تسببت هذه الصراعات -وإن كانت متقطعة- في غرق كل من سكان باب التبانة، البالغ عددهم قرابة 85 ألف ساكن، وسكان حي جبل محسن، البالغ عددهم قرابة 45 ألف ساكن، في فقر مدقع.
ووفقاً لإحصاءات غير معلنة قام بها الباحث، رافاييل لوفافير، لصالح الأمم المتحدة سنة 2011، فإنه "من الممكن أن تتسبب الأزمة الأمنية في شمالي لبنان في إفقار قرابة 87% من سكان حي باب التبانة".
وفي هذا الصدد، قال المصور الفوتوغرافي، براندون توزيك: "لقد أثرت فيَّ تلك الصور التي التقطُّها لشارع سوريا، الذي يفصل ويوحد في نفس الوقت جيران الأحياء".
وقضى هذا المصور الأميركي، ابن ولاية كاليفورنيا، عشرة أيام كاملة يتنقل خلالها بين "الجارين اللدودين"، وهو ينقل شهادات حية للمواطنين.
ومن بين الذين تحدَّث معهم تاجرٌ، أجابه بابتسامة دمثة قائلاً: "أتمنى أن يعيش أبنائي في جو من التسامح".
سوريا ستريت
وقد نشر برادون توزيك أفلامه الوثائقية عن طرابلس في موقع "سوريا ستريت" (شارع سوريا) بالشراكة مع اللجنة الدولية للصليب الأحمر.
وفي السياق نفسه، ظهر رامي، أحد سكان باب التبانة، في هذه التسجيلات قائلاً "لقد قلبت هذه الاشتباكات منذ بدايتها حياتي… فخلال مواجهات سنة 2008، التهمت النيران منزلي في حين كانت عائلتي بداخله… ومنذ ذلك الوقت، لم نعد نخاف من أي شيء، ولم نعد نهتم لأي شيء… وبكل بساطة، نحن أحياء لأننا لم نمت بعد".
في الواجهة المقابلة، تحديداً في حي جبل محسن، قاد أحمد إبراهيم علي "أنا من أصول سورية، لكنني ولدت هنا، وزوجتي من سكان باب التبانة. لقد كنا نعيش مع بعضنا البعض قبل أن تبدأ المعارك".
ويضيف "خلال تلك الفترة، كنت أعيش في حي باب التبانة الذي كنت أعتبره بمثابة منزل لي، لكنني خفت من أن أبقى في ظل احتدام المواجهات… خلال فترة الهدوء، كنت صاحب مقهى بجانب المسجد بحي باب التبانة، أما الآن فأجد نفسي مجبراً على الرحيل والعمل في حي جبل محسن المقابل".
مثلت أول زيارة للمصور الفوتوغرافي برادون توزيك للبنان، فرصة له لبعث مشروع "شارع سوريا"، حيث أكد بنفسه قائلاً: "لقد أصبحت منذ فترة طويلة مهتماً بالقضايا التاريخية والسياسية لدول الشرق الأوسط وشمال إفريقيا، خاصة مع انتشار الفكر السلفي.
وأضاف: "إنني أعتبر شارع سوريا في طرابلس بمثابة عالم صغير يعيش على وقع عدة تجاذبات إقليمية، أو مثال للعنف في المناطق الحضرية الذي يمكن أن نراه في أي بقعة من العالم".
وفي هذا الصدد، أشار المصور الفوتوغرافي إلى أنه "رغم العداوة التي بينهم، إلا أن المواطنين الذين تحدثت إليهم في أحياء طرابلس كانوا أناسا مضيافين ولم يجدوا أي إحراج في الحديث عن حياتهم… فقد كان أغلبهم يؤمن بأن ما سيرويه من معاناة سيتكرر لدى سكان الحي المقابل. ومع ارتفاع وتيرة المواجهات المسلحة، يتقاسم بعض الأهالي أطعمتهم، وكلما استضافني أحد سكان الحيّيْن قدم لي الخبز العربي، وصحناً من الحمص، فضلاً عن قهوة وسجائر".
مجزرة التبانة
يعكس التوتر بين سكان كل من حي باب التبانة وجبل محسن الصراع السني الشيعي، الذي يعود تاريخه في طرابلس إلى بداية سنة 1980، تحديداً خلال تواجد القوات السورية في شمال لبنان.
وذكرت ابنة مدينة طرابلس، نجوى حولي، أنه "خلال هذه الفترة (أي سنة 1980)، كانت قوات الجيش السوري تميل للعلويين".
وخلال شهر ديسمبر/كانون الأول من سنة 1986، عاش حي باب التبانة السني على وقع مجزرة ارتكبتها ميليشيات الحزب العربي الديمقراطي (حزب علوي) المدعوم من النظام السوري.
ومنذ هذه الحادثة لم تتوقف الاشتباكات والتوترات بين سكان الحيين، وقد تعمقت الأزمة أكثر مع اغتيال الوزير الأول اللبناني السابق، رفيق الحريري، سنة 2005 حيث إن هذا الاغتيال، الذي تورط فيه النظام السوري، أسهم في خلق الإحساس بالتهديد لدى الطائفة السنية. كما تعزز ذلك أكثر مع اقتحام حزب الله الشيعي للعاصمة بيروت سنة 2008 (عقب محاولة الحكومة لتفكيك شبكة الاتصالات التابعة للحزب).
الحرب السورية
في المقابل، تبقى الحرب السورية أحد أهم أسباب الصراع في مدينة طرابلس اللبنانية حالياً، حيث يميل سكان جبل محسن الشيعة إلى تأييد النظام السوري، ولا يخفي سكان باب التبانة السنة تعاطفهم مع المعارضة المسلحة.
وعاش حي باب التبانة، خلال شهر أغسطس/آب 2013، على وقع تفجيرين بسيارة مفخخة، طالا مسجدين للسنة. وقد خلَّف هذا الهجوم قرابة 50 مصاباً سقطوا بين جريح وقتيل.
ويعتبر هذا الاعتداء الأكثر دموية منذ نهاية الحرب الأهلية في لبنان سنة 1990. ووجهت أصابع الاتهام مباشرة إلى النظام السوري.
أما بالنسبة للباحث رافاييل لوفافير، فإن "المواجهة بين كل من باب التبانة وجبل محسن في لبنان، هي عبارة عن امتداد طائفي للأزمة السورية المجاورة… ولا يخفى على أحد أن هذه المواجهات سببها بالأساس طائفي، على الرغم من أن ذلك لا يحجُب طابعها السياسي".
وقال رافاييل لوفافير إن "الذي أطلق اسم "سوريا" على الشارع الفاصل بين الحيين، هم بلا شك السكان أنفسهم".
وفي هذا الصدد، ذكر شادي ناشابي مؤسّس منظمة "يوتوبيا" غير الحكومية، وهي منظمة ذات أبعاد اجتماعية، أن "هناك مناطق في لبنان على غرار باب التبانة وجبل محسن، أصبحت تُستغلّ كوسيلة لنقل رسائل سياسية ضمنية، إذ تحول هذان الحيان لمسرح يحتضن "لعبة سياسية" أول ضحاياها سكان المنطقتين".
في المقابل، أشار رئيس وفد اللجنة الدولية للصليب الأحمر في لبنان، فابريسيو كاربوني، إلى أن "سكان الحيين لا يعانون فقط من ظاهرة الفقر، وإنما يعانون أيضاً من التهميش والتفرقة".
علاوة على ذلك، يبقى شباب سكان الحيين لقمة سائغة بيد التطرف، نظراً لأن وضعيتهم الحالية التي تتسم بالفقر والبطالة تجعلهم عرضة للدخول في هذه الدوامة، التي لم تقدر المنظمات المحلية على إيجاد حل بهدف إيقافها.
هذا الموضوع مترجم عن صحيفة Mediapart الفرنسية. للاطلاع على المادة الأصلية، اضغط هنا.