لا مكان يشبه البيت

كانت الطريق جد طويلة، أول مرة تشعر بأنها قاسية، ابتعدت كل هذه المسافة كي تبتعد عن أمها التي كانت تسألها أين تأخرت.. لتضمن أن لا أحد يراها ولا أحد سيسألها، كانت الطريق فعلاً طويلة، وأتعبتها كثرة الأسئلة التي انتابتها؛ كيف سيستقبلاني؟ هل سيسامحاني؟ هل ما زال في قلبهما متسع من أجل هذه الضائعة؟

عربي بوست
تم النشر: 2017/12/30 الساعة 03:38 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2017/12/30 الساعة 03:38 بتوقيت غرينتش

أخيراً، انتهى هذا اليوم فخلعت ملابسها المتكلفة وأسدلت شعرها واستسلمت للنوم. يومها لم يكن سهلاً يسيراً قط. فقبل هذا اليوم بسبع سنوات وبضعة أشهر وأيام وساعات، حصلت على شهادتها في الهندسة المعمارية، وظنت أن الكمال قد حققته أخيراً، وبدأت ترسم طرق حياتها المستقبلية.

خططت لأيامها ولياليها، لكل يوم عمل وكل أسبوع إجازة. جهزت لائحة بكل الأشياء التي سوف تشتريها، بدءاً من المنزل الفخم إلى أحمر الشفاه، كان كل شيء مثالياً. لكن كان هناك شيء ناقص، فنفسها تفتقد شيئاً ما. كانت كلما شعرت بذاك الفراغ تتعب نفسها بالعمل فتسهر أوقاتاً طوالاً إلى أن تشعر بالنوم أو تسافر لأماكن بعيدة أو تشتري مزيداً من الأشياء.. لكن ذاك الإحساس لا يغادرها أبداً، فعلت كل ما بوسعها لتبعده، لكنها لم تستطع.

كانت تشتاق إلى أمها، هذا ما جعل من كل ما حققته هباء يندثر في كل مرة تذكرت اليوم الذي خرجت منه من البيت وهي تصرخ طالبةً الحرية. كانت رغم اجتهادها وحبها العلم، فتاة متمردة لا تحب الخنوع ولا تحب نصحاً من أحد؛ لكون غرورها وذكائها أقنعاها بقدرتها على العيش دون أي أحد حتى والديها اللذين كرسا حياتهما لخدمتها.

في لحظة سفر لماضيها، تذكرت والدها وهو يكتب كل فروضها خفية عن أمها؛ لأنها أخبرته بأن يديها باردتان ولا تستطيع حمل القلم، وكيف كانت معجبة به حين كان يحملها هي وحقيبتها معاً، وكيف كانت تتكئ على كفه حين يغالبها النوم وتشعر بأمان الكون بأكمله.. ذاك الأمان كانت تظن أنها ستجده في حضن رجل آخر أوسم من أبيها وأكثر شباباً منه، لكنها لم تجده في أي رجل آخر ادَّعى حبه لها.

تذكرت أطباق أمها البسيطة، لكنها ألذ من كل أطباق تلك المطاعم الفاخرة التي أكلت بها.. تذكرت استيقاظها في الصباح الباكر كي ترتب الكتب من أجلها وخوفها حين كانت تذهب لاجتياز امتحان… كانت أمها الوحيدة التي تبكي من الفرح لأجلها، وكل محيطها الآن يبارك نجاحاتها برسائل نصية.

حاولت أن تتذكر لم أصبحت عنيدة وأصبحت مؤمنة بأنهما بليدان لا يجيدان فعل شيء سوى التضييق عليها وخنق حريتها.. فتذكرت أنها ابتعدت عنهما فجأة وأرادت الحرية أو الانحلال؛ كي تشعر بالسعادة، كانت تظن أن التدخين حرية، وها هي الآن تعاني الويلات كي تتركه، وظنت أن شرفها ليس بين فخديها، وها هي الآن لن تستطيع الحصول على ابن لأنها أصيبت بمرض بعد علاقات أشعرتها بلذة الحرية لحظة وألم يعيش معها للأبد… كل ما وصلت إليه حَرَمَها ذاتها ونفسها… فعلت كل ما ظنت أنه حرية وقوة، لكنها فقدت احترامها ذاتها.

هذا ما أخبرتها به أمها، أنها ستشعر به حين رأتها لأول مرة وهي تدخن. الندم… لكنها لم تصدقها؛ فعنادها كان يصور لها أنها الحق ولا أحد يستطيع أن يحدد مصيرها وما ستشعر به إلا هي. خرجت من بيت أبيها وأصبحت تعمل لتؤمّن ثمن الكتب والملابس والسجائر والخمر وتدرس، هي معادلة صعبة، لكنها تهوى حل المعادلات.

نجحت في دراستها وحققت كل مادي حلمت به، وكانت تظن أن حب والديها سيعوضه حب الرجال الغرباء وهم يُغرقونها مدحاً في جمالها وذكائها، ليقودهم ذلك إلى بيت أحدهم؛ كي يعبر عن هذا الحب.. لكن في قرارة نفسها كل ذلك كان مزيفاً.

وها هي اليوم تندم على كل شيء، وتندب أفكارها وذكاءها اللذين حوَّلاها لشيء لا أكثر، لمريضة، لآلة عمل وحل معادلات. كرست هذا اليوم المدمر للأعصاب، يوم عودة لذاتها، لتلك الطفلة المغرمة بأبيها، تذكرت كل تفاصيل يده وكل نظرات الإعجاب الطاهر التي كان يراها بها، تذكرت صوت أمها الهادئ وتفاصيل وجهها الناصع البياض. فحملت شظايا نفسها وركبت سيارتها لتعود لبيتها، ليس ذاك الذي بَنَتْه بعملها، لكن ذاك الذي بناه أبوها من أجلها.. ذاك البيت الذي وُلدت فيه أحلامها وستر عيوبها.

كانت الطريق جد طويلة، أول مرة تشعر بأنها قاسية، ابتعدت كل هذه المسافة كي تبتعد عن أمها التي كانت تسألها أين تأخرت.. لتضمن أن لا أحد يراها ولا أحد سيسألها، كانت الطريق فعلاً طويلة، وأتعبتها كثرة الأسئلة التي انتابتها؛ كيف سيستقبلاني؟ هل سيسامحاني؟ هل ما زال في قلبهما متسع من أجل هذه الضائعة؟

شعرت بأعاصير تضرب عقلها وانكسارات تدمر روحها، أشعرها ذلك بألم في سائر بدنها؛ فأوقفت السيارة وبكت دموعاً سجنتها سنواتٍ طوالاً؛ كي تخدع نفسها بأنها بخير وأنها رغم افتراقها عن كلها تشعر بالرضا… بكت سنين ظنتها جنة، لكنها في الواقع كانت جحيماً يأكل صحتها وأحلامها، لا حياة بعيداً عمن أهداك الحياة، ولا سعادة في غياب من أعطاك الفرصة كي تشعر.. بكت بحرقة روحها البائسة، كادت تتراجع عن فكرة عودها، لكنها قررت أن تكون شجاعة لأول مرة وألا تهرب.. فأتمت طريقها.

وصلت فوجدت أمها ازدادت جمالاً ونظراتها ما زالت بالحنان نفسه أو أكثر، لكنها نظرت إلى ابنتها بحسرة، تفحصت فيها ملياً، لكنها لم تجد طفلتها، نظرت إليها بنظرة امراة لامراة… فنظرت لأبيها، أصبح أكبر سنّاً عما تركته، لكن ذلك لم ينقص من سحره قط.. أمسكت يده لتقبّلها فوجدتها تماماً كما تركتها دافئة وآمنة، اشتاقت أن تضع رأسها هناك.

لم تتكلم، لكنها بكت أمامهما بكل ما أوتيت من ضعف وندم وانكسار… "غرفتك نظيفة وتشتاق إليك، اصعدي واسترخي… يظهر عليك تعب الكون يا ابنتي"، قالت أمها بكل حنان وبصوتٍ يغالب الدموع… فلا مكان كالبيت ولا حب سوى ذاك الذي فتحنا عليه أعيننا.

لا شيء يضاهي النوم في الغرفة التي ترعرعت بها بعد يوم طويل وكل دعوة "للحرية" هي فخ سيبعدك عن ذاتك، لكن ليس الكل سيجد طريق العودة.

ملحوظة:

التدوينات المنشورة في مدونات هاف بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

تحميل المزيد