هول السكون الذي تعيشه مصر يجعل سيناريوهات المستقبل مفتوحة، يتزامن هذا مع نيران حارقة تتمدد في قلب نسيج المجتمع، نيران الدولار والسولار، ونيران الانفجارات وخراب الجنرالات، الفشل المدوي في الحكم يلتف حول أعناق النخبة العسكرية، وينذرها الخطر، إلا أن سكرة التوغل في الاقتصاد والمجتمع بعد أن أماتوا السياسة أصابتهم بالجنون، فلا يُفكرون إلا كيف يُسيطرون على باقي الأوراق وكل الأوراق، يملؤهم الوهم أنه ما دام كل شيء في أيديهم فإنهم بمأمن، إلا أن أوتاد الفراعنة الذين طغوا في البلاد، فأكثروا فيها الفساد، لن تحميهم من أسواط العذاب.
وهكذا حال الدول والممالك والعصابات، تنشأ فَتية وتستقر قوية، ثم تتراجع وتتحلل وتنزوي، فالنظام المريض في مصر يبحث عن وريث، بعد أن استجمع أسباب الانهيار ومقومات السقوط، فمن يرث أوحالاً أغرقت مصر ومشكلات عضالاً تحوطها من كل جانب؟ تركة صعبة وثقيلة، إلا أنها لكل طامح وطامع غنيمة، فالنظام الذي شاخ وهرم بجناحيه (العسكري الأمني المخابراتي) و(البيروقراطي ودولة النظام العميقة) يُدرك أن أي إصلاح حقيقي لن يمر إلا بأن يقطع من لحمه الحي، ويبتر من جسده الفاسد.
لذا ترنو مصر للاعبٍ جديد، لاعب مُخاطر من قلب النظام وجوقته، يُعيد تموضع النظام، ويُحيي أمله في الاستمرار، لن يستطيع هذا إلا عقل ثعلب ماكر وقلب ذئب جسور، أمامه فرصة عظيمة لائحة إلا أنها مخاطرة كبيرة؛ لأنه سيكون ضد الجميع، على الرغم من أنه سيوهمهم أنه معهم جميعاً، سيكون عليه أن يُضحي ويستأصل من قلب النظام ومن معبد الدولة، سيحاول أن يكون طاغية عادلاً مستنيراً على أمل أن يستجمع لُحمة نظام دولة تتحلل، إلا أنه لو نجح سيكتشف أنه أنشأ نظاماً جديداً!
هكذا تحدث التغيرات الكبرى بطريقة كلاسيكية هادئة، إلا أن الغضب العاتي الرابض في قلوب شعب يتململ مستعد للانفجار في أي لحظة، يجعل الفرص سانحة، والبيئة مُعدة لتغييرات أكثر جذرية وأكثر حسماً، وهنا يبرز التوّاقون المتطلعون لتحولات نوعية وتطورات عُظمى، هؤلاء قد يكونون مردة شياطين يُريدون مصر كجائزة كبرى تملؤها الصراعات والفتن والتطاحن والسواد، فسيناريوهات التقسيم والفوضى والقتل والجوع حاضرة، فتصبح مصر وقتها ملعباً لقوى من خارجها، لا ضابط أو رابط يستطيع أن يعيد نسيجها، لا بالقهر ولا بالعدل.
إلا أن في عِظم الخطر وفي قلب المحنة منحة وفرصة ذهبية لمن يُريدون تغييرات جوهرية، فإن أياً من أهل الثورة لو امتلك مشروعاً وبديلاً، حاطه بوعي الناس ورفعه بقوة البأس، وخاطب به أحلام الشعب وآماله، ستكون له الغلبة، ولو بعد حين، قد يستغرق ذلك بضع سنين، إلا أن الراغب في وراثة ملك مصر عليه أن يكد ويتعب، فالسلطة والحكم وحسم أمور البلاد لا تكون بالانتظار أو البكاء على 18 يوماً خلت، في ثورة سُميت بماضي الزمان (25 يناير/كانون الثاني)، ولكن بثورة جديدة يكون اسمها من نصيب المستقبل المصنوع على عين قيادة ثورية تتولى أمرها، وتتسمّى باسمها.
فيا سنوات وراثة الحكم والسيادة والسلطة القادمة في مصر.. لا نريدك فوضى أو خراباً، كما لا نريدك لثعالب غادرة بوجوه جديدة، فوضع التحلل الحالي يجرجرنا إلى سيناريو الضياع المبين، وعلى أصحاب البصائر تجهيز أنفسهم للخروج بالبلاد من فك المفترسين ونُذر الخراب، أما الخياليون الذين يريدون لمعادلة القوى أن تستقر على (عسكر – فلول – إخوان)، فهؤلاء يستنزفون الشعب، ويُرهقون الناس، ويؤسسون لجراح أعمق تنبت بيئة الفوضى والسواد، إن تجاوز تلكم الجهات الثلاث هو الإنقاذ، فالجيش فاشل في الخروج من ورطته وأفضل ممثليه (وش قفص المؤسسة العسكرية) هم أمثال السيسي وشفيق.
أما الفلول والدولة العميقة العائدة بهدوء وفجور فهذه أساس الضياع ومستنقع البؤس والإفساد، والإخوان منقسمون بين من يُريدون التصالح وبيع الوهم دونما إصلاح حقيقي لبنية النظام، وآخرين يقولون إن الثورة ماضية إلا أنها ليست فعلاً حاضراً بعد، وفي مستقبلهم شكوك! فورطة مصر تبحث عن جَسور مغامر يتخطى المعادلات ويخترق الساحات ويقلب الحسابات، لاعب جديد ماهر بواقع خريطة القوى في مصر وبارع في اقتناص الفرص، يفهم آلام الناس، فيُخاطبهم بها، ويمتلك أدوات النزال، فيرمي بها، ويجمع كتلة صلبة حوله تُقدمه لاقتحام أعتى الحصون.
وكواقع مؤلم نستشعره فإن أسهل الاحتمالات هو أن يأتي من يُجدد للنظام دماءه ويُحيي فيه الروح، وعلى الشعب يومها أن لا يُمرر هذا إلا مضطراً، بعد أن يضع العصا في عجلة النظام، فعلى الطامح الطامع أن يُقدم القرابين تترى للشعب كي يقبل به، مما يُغير قواعد اللعبة ويُغير أسس النظام، ولا يُمكن أن يكون هذا اللاعب الجديد قديماً، فكونه من حرس الدولة القديم (رؤساء الوزراء والوزراء وأعضاء المجلس العسكري ورؤساء الأجهزة الأمنية والمخابراتية في السبع سنوات الأخيرة) سيجعله مُحملاً بماضٍ سيخنقه، وجدير بأن يقضي عليه.
وعلى جماعة الإخوان التي هي قدرنا أن تتجاوز مُصابها سريعاً؛ كي تعرف أين ستقف في المستقبل، هل ستنكفئ على نفسها معلنة للاستسلام؟ أم ستبحث عن دور داخل نفس المنظومة الممجوجة (عسكر – فلول – إخوان)؟ أم ستضيع مع الفوضى والخراب؟ أم ستكون جزءاً من معادلة جديدة للطامح الطامع في وراثة الملك؟ فأين ستقف يومها في صف قصور الحكم أم ميادين الرعية؟ أم أنها ستدرك ولأول مرة أنه في ظل واقع لُجّي بشع باتت قادرة على أن "تصنع" فرصتها التاريخية لتؤتَى ملك مصر؟!
أما نحن كشعب فإننا علينا أن لا نترك النظام الحالي ودولته المتحللة وقتاً أكبر؛ لأن تكاليف هذا في المستقبل أبشع وأضخم، كما علينا أن لا نسمح بإعادة إنتاج معادلة 2 ضد 1 (عسكر – فلول – إخوان)، فهي معادلة الفشل والاستنزاف، كما علينا أن لا نستجيب لمنطق الفوضى والدمار الشامل كحل، حتى وإن كان الجنرالات يضعونه كبديل للحظة السقوط، فالفاقدون للرؤية والاستراتيجية لا يصنعون مستقبلاً ولا أماناً، أما الطامع الذئب صاحب الكيد علينا أن نستخدمه إن اضطررنا إليه لا أن يستخدمنا، وفي كل لحظة ومع كل سيناريو ستظل مصر تنتظر مُخلصها الحقيقي الصادق، الذي يخرج بها من الأخطار المدلهمة إلى نور العيش والحرية والكرامة الإنسانية والعدالة الاجتماعية.
فمَن لها؟!
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.