حديث المكتبات

كانت أسرة مكونة من زوج وزوجة وولد وبنت في عمر الزهور، اختارت الأسرة التجول جماعياً داخل المكتبة، أثارني سلوكهم، يشبهون جماعة النحل تنتقل من زهرة إلى أخرى في خفة ونشاط، وتتبادل الأفكار حول الرحيق ونوعه وجودته.. وقفوا بجانبي في الجناح المخصص للرواية العالمية، وكان النقاش محتدماً بين الزوج والزوجة عن عمالقة الأدب العالمي وأنواع الروايات الجيدة والانطباعات التي خلفتها لديهم

عربي بوست
تم النشر: 2017/01/31 الساعة 01:28 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2017/01/31 الساعة 01:28 بتوقيت غرينتش

من بين عاداتي كلما زرتُ مدينة من المدن المغربية زيارة مكتباتها الكبرى، ويحدث هذا معي باستمرار، وخصوصاً في مدينة الرباط.

زيارة المكتبات امتداد للاحتفالية التي كان يوليها العرب قديماً للكتب وللإنتاجات الفكرية عموماً: المعلقات – سوق عكاظ – ذو المجاز وغيرها.

عندما تزور مكتبة تحجز لنفسك مقعداً مريحاً للسفر، سفر ممتع لا ضرورة فيه لتأشيرة.
من بين فوائد مثل هذه الزيارات تحيين المعلومات والأفكار، والتعرف على آخر الإصدارات ومستجدات البحث العلمي والدراسات الحديثة في شتى الميادين والمجالات.

قال لي أحد الأصدقاء الظرفاء: تكفيني زيارة مثل هذه المكتبة مرة في الأسبوع؛ لأصير مثقفاً دون اقتناء كتاب واحد.
ما سأنقله لكم اليوم مختلف نوعاً ما، هي مشاهد عايشتها لبعض رواد المكتبات، أقربكم بواسطتها من هذا العالم الدافئ.

المشهد الأول :

أب رفقة ابنه الصغير، دلَّه على جناح الكتب المخصصة للأطفال، وطلب منه أن يأخذ وقتاً كافياً لاختيار كتاب واحد، سيكون صديقه الجديد وضيفه العزيز، لقد عوَّده على صديق كل جولة في المكتبة.. كان الطفل يريد أكثر من صديق.

المشهد الثاني:

تلك المرأة الأربعينية التي لمعت عيناها فرحة وبشكل مفاجئ، لقد عثرت على ضالَّتها -كتاب تبحث عنه- مسرعة ومضطربة تخرج من حقيبتها اليدوية هاتفها لتخبر صديقة لها.. أخبري فلانة بأني وجدت الكتاب وسوف أقتنيه الآن.. لم تعِر الحاضرين أي اهتمام، فالفرح قبس من جنون.
فهمت أن الأمر يتعلق بمجموعة من النساء تجاوزن المطبخ وندب الحظ العاثر ومشاكل الأطفال بكثير؛ ليجدن لأنفسهن زمناً آخر وفضاء مختلفاً لتقاسم الأفراح والأفكار.. والكتب.

المشهد الثالث:

طالب جامعي -لعلها أول زيارة له للمكتبة- يبدو ذلك من طريقة تجوله بين هذه الأروقة الكثيرة، وشبه ضياعه في عالم العناوين والإصدارات، تقوده حيرته لشخص أكبر منه سناً ويبدأ الحوار، والأسئلة المتتالية والمتسرعة والرغبة في الاستزادة.. الظلام الكثيف يحتاج نوراً ساطعاً يبدده.
الذي يجيب أستاذ جامعي يعرفه، أعطاه مجموعة من التقنيات الذكية للإفادة من عالم الكتب والمعرفة.
كان سؤاله الأول على ما أذكر: أستاذي، أنا لا أعرف من أين أبدأ؟
كان الجواب مقتضباً واضحاً: لقد بدأت.

المشهد الرابع:

رجل خمسيني، قصير القامة، أنيق في غير تكلف، اشتعل رأسه شيباً، يشبه الصمت في هدوئه، لكنني لم أعد أراه، لقد اختارت المكتبة الحواسيب لتسهيل عملية البحث على رواد المكتبة -زحف العولمة- فافتقدنا الرجل الطيب الذي يعرف تفاصيل المكتبة، يفرح بسؤالك ويدلك على ما تبحث عنه؛ بل يقودك إلى الرف المناسب ويهمس لك بأن للكاتب كتباً أخرى ويخبرك أشياء أخرى لم تدر بفكرك قبل تلك اللحظة، عندما ينهي مهمته يعود إلى إحدى الزوايا في هدوء الحكماء في انتظار مريد آخر.

ما أقسى الزمن! لعله كان يعتقد يوم اشتغل بهذه المكتبة أنه لا غنى لهم عنه، لكن الذكاء الاصطناعي يزحف، ونخشى أن يصبح الإنسان يوماً خبراً بعد عين.

لقد افتقدتك حقاً، أيها الرجل الطيب والدال على ينابيع المعرفة.

المشهد الخامس:

كانت أسرة مكونة من زوج وزوجة وولد وبنت في عمر الزهور، اختارت الأسرة التجول جماعياً داخل المكتبة، أثارني سلوكهم، يشبهون جماعة النحل تنتقل من زهرة إلى أخرى في خفة ونشاط، وتتبادل الأفكار حول الرحيق ونوعه وجودته.. وقفوا بجانبي في الجناح المخصص للرواية العالمية، وكان النقاش محتدماً بين الزوج والزوجة عن عمالقة الأدب العالمي وأنواع الروايات الجيدة والانطباعات التي خلفتها لديهم، كنت أود أن أتدخل لأسألهم؛ لأجيبهم، لأشكرهم، لأهنئهم، لأتعارف معهم ولكني اخترت الصمت خشية أن أفسد عليهم متعتهم وتواصلهم العقلي والروحي.

المشهد الأخير: انطباعي الشخصي

في نهاية زيارتي للمكتبات أتساءل دائماً ويخطر ببالي السؤال نفسه: ماذا بقي للإنسان أن يقوله؟ من خلال كل هذه الكتب، تفترض أن الإنسان قد قال كل شيء.. هل لديه كلمة أخيرة لم نسمعها بعد؟! نحن ننتظر.

ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

تحميل المزيد