في هجاء الأوهام

يقول ويل ديورانت: "المبدأ الذي يطبع الفلسفة الحديثة هو أن الإنسان عندما يبدأ باليقينيات فإنه سينتهي حتماً إلى الشك ولكنه عندما يبدأ راضياً بالشك فإنه سيصل متدرجاً إلى اليقينيات.

عربي بوست
تم النشر: 2016/04/12 الساعة 04:40 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2016/04/12 الساعة 04:40 بتوقيت غرينتش

"سأل جحا امرأته يوماً: ما الفرق بين الحي والميت؟ فأجابته: إذا مات المرء بردت يداه ورجلاه. فخرج يوماً إلى الجبل يحتطب في فصل الشتاء فشعر ببرد في يديه ورجليه، وخطر على باله ما قالت له امرأته فقال: لا شك أني ميت! ثم استلقى على ظهره تحت شجرة وترك حماره سارحاً في الفلاة، فأتت الذئاب وفتكت بالحمار وهو يرى ويسمع، ولم يكن منه إلا أن رفع رأسه قليلاً وقال للذئاب: ويحكم أيها الجبناء أتفتكون بحمار مات صاحبه ولا من يدافع عنه! لو كنت حياً لأريتكم."

تصور هذه القصة الرمزية مفارقة تنشأ من عقلية البُعد الواحد التي تصنع الأوهام، وهي إشكالية ذهنية تنتمي إلى قائمة طويلة من المفاهيم الخاطئة التي تمثل بمجموعها حقائق متوهمة تضطرب بسببها علاقة الإنسان بواقعه المادي الملموس، وتكتسب الأوهام مع تطاول الزمن "سلطاناً حقيقياً" في نفس صاحبها، حيث تنعكس في الطريقة التي يستجيب بها لمشكلات الحياة ومحطاتها المختلفة.

الوهم هو الصورة التي ترتسم في الذهن عن الحقيقة دون التمعّن فيها، وعقل الإنسان يشبه المرآة غير المستوية التي تعكس خواصها على الأشياء بطريقة غير سوية، وغالباً ما تكون أفكارنا صوراً عن أنفسنا أكثر من كونها صوراً للأشياء من حولنا، ولذا كان المتنورون الأوائل يفترضون في الأشياء درجة من الانتظام أكبر مما هو موجود فيها، ومن هنا توهموا أن أفلاك الكواكب دوائر تامة بينما كانت في الحقيقة مدارات بيضاوية.

ويتجاوز جبروت الوهم أحياناً حدوده في الخيال والوعي إلى التأثير الفسيولوجي في جسد صاحبه بشكل مباشر، فقد أورد الباحث عبدالعزيز الحسيني في كتابه (ضغوط الحياة وأساليب التعايش معها) قصة مريض مُصاب بمرض الربو، استأجر غرفة في الطابق الرابع لأحد الفنادق، وبعد أن آوى إلى فراشه وغرق في نوم عميق انتابته في منتصف الليل مقدمات ذبحة صدرية واختناق مفاجئ.

فقام من فراشه مذعوراً ومد يده إلى الجدار متحسساً مفتاح الإنارة فلم يجده، فتوجه إلى النافذة وحاول فتح رتاجها فلم يفلح، فشد قبضة يده محطماً زجاجها ثم اندفع وملأ رئتيه من هواء الليل النقي في ظلام الغرفة وتوجه بعدها مطمئناً إلى فراشه، وفي الصباح اكتشف الرجل أن ما حطمه لم يكن زجاج النافذة وإنما زجاج الساعة الجدارية! فالوهم بأنه قد استنشق هواء نقياً قد أنجاه من ضرر حقيقي.

وتذكر لنا كتب التاريخ قصة الشيخ الذي توهّم حية في بطنه، وكاد هذا الوهم يقتله، حيث امتنع عن إلقاء دروسه لطلابه في المسجد ولازم بيته متألماً متوجعاً لولا أن طبيباً ذكياً قام بوضع حية حقيقية في الكنيف (مكان قضاء الحاجة) ثم أعطى الشيخ المبتلى مليناً للمعدة، وراوغ الطبيب الشيخ وأوهمه بأن الحية الموجودة في الكنيف إنما خرجت من بطنه! وعاد الشيخ بعدها إلى دروسه وطلابه وقد اختفت آلامه وأوجاعه.

ويمكن ملاحظة تأثير الوهم في الإنسان بالنظر إلى كيفية تكوينه لمعتقداته؛ فهو إن آمن بفكرة خاطئة عن طريق القناعة والتسليم – بسبب لذة أو طمأنينة تعود عليه من جراء إيمانه بها – فإنه يتعسف كل شيء من أجل إثباتها على الرغم من كل الأدلة التي تظهر بوضوح بطلانها، فإما أنه لم يلحظ مكمن الخطأ في بنية تلك الفكرة وإما أنه يرفض أي نقد لها بعنف وتحيز ضار!

يذكر ويل ديورانت (1885-1981) في كتابه الممتع "قصة الفلسفة" أن هناك طائفة من الأوهام انتقلت إلينا عن طريق فرضيات بعض الفلاسفة والبراهين والأدلة الخاطئة – يسميها فرانسيس بيكون "أوهام المسرح" – حيث تمثل الأنظمة الفلسفية روايات مسرحية لعالم خلقه الفلاسفة أنفسهم بطريقة روائية، ويوجد في هذا المسرح الفلسفي نفس الأشياء الموجودة في مسرح الشعراء، فمثلاً: العالم كما يصفه أفلاطون ليس سوى عالم بناه أفلاطون ويصور أفلاطون أكثر من تصويره للعالم.

يقول ويل ديورانت: "المبدأ الذي يطبع الفلسفة الحديثة هو أن الإنسان عندما يبدأ باليقينيات فإنه سينتهي حتماً إلى الشك ولكنه عندما يبدأ راضياً بالشك فإنه سيصل متدرجاً إلى اليقينيات، من الأفضل لنا أن نضع موضع الشك والتساؤل كل ما يحتجزه عقلنا كقناعات بلا سبب واضح حتى نحتفظ بصفاء العقل وهدوئه، وألا نسمح لوعينا بأن يقفز ويطير وأن نقيده بالأثقال حتى نحول بينه وبين الانتقال من الفرضيات الأولية إلى البديهيات الشاملة، قد يكون الخيال والتصور أشد أعداء العقل مع أنه من المفترض أن يكون اختباره وتجربته وفقط".

ملحوظة:

التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

علامات:
تحميل المزيد