تراجيديا النهايات

تقع عينك علي فتاة في السوبر ماركت تبتسم فتبتسم - دون تحديد البادئ منكما في الإبتسام - تنتظرها في الخارج لاهثاً خلف كلمات تتطاير فتحاول الإمساك بها دون جدوي، وحين تتعلق بأحد تلك الجُمَل الكلاسيكية المناسبة لإفتتاح الكلام، تكتشف أنك لست وحدك من كان في انتظارها. كان هناك آخر؛ آخر لن يتكلف عناء البحث عن كلمات رقيقة يستميلها بها، لأن هذا الآخر زوجها.

عربي بوست
تم النشر: 2017/12/30 الساعة 03:02 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2017/12/30 الساعة 03:02 بتوقيت غرينتش

مليئةٌ هي الحياة بلحظات السعادة المؤقته، أفراح لم تكن في حقيقة الأمر افراحًا، كل ما في الأمر أن طرفاً من خيط نور ما ظهر في الأفق، نسج خيالنا حوله حكاية مكتملة الأركان، بداية.. متن.. ونهاية مثالية. ولأن المؤلف في الأصل كان عقلنا الباطن، ولأن الحكاية لم يكن لها مكان إلا في أحلامنا، تتلاشي أوراق الحكاية حين يأتي الصباح ويوقظنا الواقع.

يأتيك الوحي علي مضض، فيُلهمك عنوان قصيدةٍ وبيتين عبقريين، أو هكذا تظن، فتدونهما في مسودتك علي أمل أن تستكملها يوما. لكنك لم تفعل لأنه في ذات اليوم وقعت عينك علي قصيدةٍ لتميم البرغوثي تحمل في طياتها نفس المعني مع فارق ادوات التعبير عن الفكرة، والتي لن تكون في صالحك بكل تأكيد. فتمزق بيتيك اليتيمين وتتوقف عن المحاولة، وتستمتع بشعر تميم.

تقع عينك علي فتاة في السوبر ماركت تبتسم فتبتسم – دون تحديد البادئ منكما في الإبتسام – تنتظرها في الخارج لاهثاً خلف كلمات تتطاير فتحاول الإمساك بها دون جدوي، وحين تتعلق بأحد تلك الجُمَل الكلاسيكية المناسبة لإفتتاح الكلام، تكتشف أنك لست وحدك من كان في انتظارها. كان هناك آخر؛ آخر لن يتكلف عناء البحث عن كلمات رقيقة يستميلها بها، لأن هذا الآخر زوجها.

تشتري سيارة جديدة دون أن تهتم بحقيقة ذلك الفعل، هل اشتريتها حقا لأنك في حاجة ماسة لها؟ هل كان عدم وجودها سببًا في تلك الأشياء التي لم تؤدها بالشكل المطلوب كما اقنعت نفسك؟ أم أن السبب الرئيسي لشرائك اياها هو فقط أنه يجب أن تمتلك سيارة (مثل الجميع)، علي العموم هذا ما حدث. وفي اسابيع قليلة يتحول ذلك الشئ الذي كان من المفترض أن يجعل حياتك افضل ويزيل معاناتك، الي معاناتك الكبري. تخشي أن تُخدَش.. فتُخدش.. وتُخدش. وتصطدم بها نصف سيارات المدينة، حتي أن النيران كادت تشتعل بها في صباح يوم العيد. الأمر بات غريبًا الي الحد الذي تفكر فيه فعلياً في موافقة اقاربك علي وضع خرزة زرقاء علي المرآه الأمامية داخل السيارة، وحذاء طفل خارجها.

لم تكن أبداً فاتنًا ولا "دنجوانًا". لم تكن ذلك الفتي الذي يسعي خلف الفتيات. كما أنك ايضا لم تكن من تسعي خلفه الفتيات. شاب متحفظ الي حد كبير، أعجبه القليل وأُعجِب به القليل. وأحبه أقل القليل. وأحب واحده، إلا أنه علي ما يبدو اختار أكثر من قابلهم جنونًا. يُعجِبه طموحها.. ذكائها، والطريقة التي تتعاطي بها مع الأمور. فتكون تلك الأشياء سبب افتراقهما لأعوام، أن يصبح ما تحبه في شخص ما هو ما يحول بينه وبينك أمرٌ في حد ذاته غريبٌ ومعقد. لكنك لازلت تحاول وتحاول بلا كلل.. وبلا فائده!

تحصل علي اجازة قصيرة، فتقرر قضائها وللمرة العشرين في تلك المدينة الساحلية الرائعة المليئة بالسياح، وبين جمال البحر وهيبة الجبال وروعة السماء. تري الكثير من الأوروبيات الشقراوات فتعجبك إحداهن، وتحاول التعرف عليها والتواصل معها دون جدوي، لأنك لا تتحدث لغتها. ولا هي بالطبع تتحدث لغتك. فتتسآئل؛ هل يمكن لعلاقة ما أن تنجح دون تواصل؟ وتتوقف عن التسائل حين تري أحدهم – والذي هو من وجهة نظرك غير جدير بها- يصطحبها للسهر خارج الفندق لمجرد كونه يستطيع مجاراتها في حديث تافه حول مدي سوء طعام الغداء، ووقاحة ذلك الفتي الذي قام برسم وشمٍ ما لها. فتقرر أنك ستتعلم تلك اللغة حين تعود من اجازتك، وبالفعل تقوم بتحميل ذلك التطبيق العبقري بالنسبة لمبتدأ.. تحفظ جملتين أو ثلاثة.. تمل.. تتوقف، وتنسي الأمر برمته. الي أن تقابل فتاة اخري في زيارتك الحادية وعشرون لنفس المدينة وعلي الشاطئ ذاته. فتتذكر ذلك التطبيق الذي قمت بمسحه لاحقاً لأنه لم يكن مفيداً علي ما تذكر. وتحاول جاهداً أن تستحضر ولو كلمة واحدة مما تعلمت دون جدوي، فتعزم مرة اخري علي أن تتعلم تلك اللغة ولكن حين تعود.

مع حلول عيد ميلادك الثلاثين جاءتك الفرصة التي طالما تحدث الجميع عنها، والتي لا تأتيك إلا مرة واحدة علي حد قولهم. فبعد معاناتك كل تلك السنوات في التنقل من عمل الي آخر؛ وما يصاحب ذلك من مشاكل مادية حيث تضطر الي البداية من الصفر مرة اخري في كل مره والقبول براتب اقل، إلا أن ذلك – حسب قولهم – لفترة وجيزة بعدها ستتهافت عليك الأموال. إلا أن هذا الوقت لا يأتي ابدا، وذلك إما لأنك لن تتحمل طبيعة ذلك العمل، وإما لأنهم لن يُبقوا عليك وسيستعينوا بوجه جديد يتحمل ذلك الراتب القليل لفترة وجيزة لا تنتهي ابدا.
علي العموم ها هي الفرصة قد جاءتك في الوظيفة التي تحلم بها بمرتب مجزي جدا يمكن ان يبدأ به شاب حياته الحقيقية. تتقدم للوظيفة.. تمر من المقابلة الشخصية الأولي والثانية.. يتم قبولك.. تتقدم الي مدير وظيفتك التي الحالية بإستقالتك وتلعن نصف عائلته ونصف زملائك في العمل. تتوجه الي عملك الجديد فتتفاجئ بأنه لابد من أن تحصل اولاً علي فترة تدريب لمدة ثلاثة اشهر؛ ستتقاضي فيها ربع راتبك وبعدها اذا نجحت ستحصل علي راتبك كاملا؛ والذي هو نصف الراتب الذي اخبروك به ابتداءا، حيث أن هذا الراتب الكبير لا يمكنك أن تحصل عليه إلا في حال ما استطعت أن تعمل أيام العطلات الرسمية وساعات اضافية بشكل يومي، وهو امر مستحيل قطعا إلا اذا كنت آله. تغضب.. تتزمر.. تضرب الأرض بقدميك.. تلعنهم في سرك.. تذهب.. تجيئ.. تذهب وتجيئ.. تقبل وتسلم بالأمر الواقع لأنه لا خيار.

هكذا هي النهايات دائما عزيزي القارئ، لن تجد نهاية واحدة تتوافق مع ما خططت له بشكل تام. تحلم.. تخطط.. تبدأ.. تسير الأمور بشكل مثالي وتحصل علي نهاية سعيدة. هذا لا يحدث ابدا الا في خيالنا. اما الواقع فربما يُحدثنا بلسان حال يقول " يا فتي لا كمال هنا، هنا دار شقاء، لا سعادة هنا إلا مؤقته.. لحظات معدوده تختلسها ليس لها وزن اذا ما قورنت بسنوات عمرك. الكمال والسعادة الحقيقية هناك في دار اخري، ربما تحصل عليها وربما لا، اما هنا فلا. فهون عليك ولا تأمل، وادنوا بسقف احلامك قليلا.. واعمل كثيرا.. وكن صبورا.. وارضي. فلا مناص من قدرك ولا مفر".

علامات:
تحميل المزيد