يجب أن تبلغ الخامسة والثمانين لتحقق حلمك

سررت بصوته وبالتأثير الذي أضافه على جلستي، فقررت أن أشاركه ببعض الفطائر التي بحوزتي، ذهبت إليه وقدّمت له منقوشة زعتر، فلاحظت استياءً على وجهه، وكأنه كان يتوقع مني شيئاً آخر، فسألته: هل تحب الزعتر يا عم؟ فقال لي: لا، وأتمنى لو أنكِ قدّمت لي منقوشة جبنة! سررت جداً بتلقائيته وعدم قبوله بشيء لا يحبه من باب المجاملة، وأدبه في طلب ما يحبه!

عربي بوست
تم النشر: 2017/05/10 الساعة 02:41 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2017/05/10 الساعة 02:41 بتوقيت غرينتش

كنت جالسة وحدي في إحدى الحدائق العامة أُطالع كتاباً وأتناول بعض الفطائر أو المناقيش -كما نقول في الشام- عندما سمعت غناء رجل عجوز يجلس وحيداً على كرسي قريب.

سررت بصوته وبالتأثير الذي أضافه على جلستي، فقررت أن أشاركه ببعض الفطائر التي بحوزتي، ذهبت إليه وقدّمت له منقوشة زعتر، فلاحظت استياءً على وجهه، وكأنه كان يتوقع مني شيئاً آخر، فسألته: هل تحب الزعتر يا عم؟ فقال لي: لا، وأتمنى لو أنكِ قدّمت لي منقوشة جبنة! سررت جداً بتلقائيته وعدم قبوله بشيء لا يحبه من باب المجاملة، وأدبه في طلب ما يحبه!

سارعت على الفور لأحضر له منقوشة جبنة، قدّمتها له وعدت إلى مكاني، وإذ به بعد عشر دقائق يأتي إلي ويطلب الجلوس قربي، أفسحت له المجال لإحساسي أنه بحاجة لمن يؤنسه ويستمع لأحاديثه، وكنت في داخلي أحس أن لديه شيئاً ليقوله أكثر إمتاعاً من الكتاب الذي أقرأ فيه، عرّفني بنفسه، وقال لي إنه يكّنى بأبي عبد الله.

صمتنا لدقيقتين أو أكثر فبادرني بالسؤال: أتمنى أن يكون غنائي قد نال إعجابك؟ طأطأت رأسي بأن نعم، وقلت له إني استمتعت به كثيراً، فأردف: كلمات الأغاني القديمة جميلة جداً، فإن تأملتِ في كلمات الأغنية التي كنت أغنيها، عندما يقول وديع الصافي: "وتراب الأرز أغلى من الدهب"، ما أجملها من كلمات، وكم كانوا محبين للوطن.

– نعم يا عم أنت محق.
* كم تتوقعين عمري يا ابنتي؟
– أظن أنك في الستين.
* في الواقع بلغتُ الثالثة والثمانين منذ يومين.

وهنا تفاجأت حقاً فلا يبدو عليه العمر أبداً، ما زال رأسه يحمل الكثير من الشعر الأسود، كما أن التجاعيد في وجهه ما زالت قليلة وسطحية، وهذه هي المرة الأولى التي أتحدث فيها مع شخص بهذا العمر مما زاد حماسي لهذه المحادثة.

أخبرني أنه عمل في الدولة مدة 25 سنة، وهو الآن متقاعد منذ 35 سنة (سنوات تقاعده أكثر من سنوات عمله!). تعود أصوله لمنطقة الزبداني وتهجر مع من تهجروا من تلك المناطق فسكن في إحدى ضواحي دمشق، ويأمل أن يعود إلى منزله بعد أن سمع عن التسوية التي تمت في مناطق غرب العاصمة.

حدثني قليلاً عن مناطق الزبداني وبلودان ومضايا وكلامه كان مليئاً بالحب والشوق، فهو يعرف معظم العائلات في تلك المناطق، ويحفظ التعداد السكاني لكل منطقة، يقضي أوقاته في الحديقة، يغني، يمارس التمارين الرياضية، يصلي فروضه في الجامع القريب من الحديقة، ويعود مساءً إلى منزله، يتناول عشاءً خفيفاً ثم يخلد إلى النوم، يستيقظ في صباح اليوم التالي ليكرر ما فعله في يومه السابق.

قد تبدو حياته حتى الآن عادية ومملة، لكن لأبي عبد الله حلم وينتظر أن يتحقق، منذ أشهر وهو ينتظر أن يأتيه اتصال من إدارة التلفزيون ليقوموا بتصوير برنامج عن قدراته، ويحلم بأن يكون عنوان البرنامج "العجوز المعجزة".

عندما لاحظ استغرابي من عنوان البرنامج، أوضح لي وقال إنه يقوم يومياً بمائتي تمرين ضغط وله قدرة على رفع أثقال تصل إلى 65 كيلوغراماً مما يجعل منه -على حد قوله- أقوى رجل معمّر في الزبداني أو في سوريا ربما.

ذُهلت بقدراته وبالطاقة التي يملكها فأنا ما زلت في العشرينيات من العمر ولست قادرة على القيام بعشرين تمرين ضغط! كما أن رفعي لعشرة كيلوغرامات يسبب لي إرهاقاً شديداً! انتهى حديثنا هنا؛ لأنه كان عليّ الذهاب، فتمنيت له التوفيق، وقلت له إنني سأنتظر أن أراه على شاشة التلفاز قريباً.

بعد عدة أسابيع قابلت أبو عبد الله مرة ثانية في نفس الحديقة، لكنه هذه المرة لم يكن يغني، كما أن لمحة حزن كانت قد بدت على وجهه، ذكّرته بنفسي فوجدت أنه ما زال يذكرني جيداً، سألته عن أحواله وعن سبب حزنه فأخبرني أنه قد جاءه رد من التلفزيون وأعلموه أنهم لن يقوموا بتصوير برنامج عنه حتى يبلغ الخامسة والثمانين، وهو الآن في الثالثة والثمانين فقط.

قال لي: عليّ أن أعيش لعامين آخرين قبل أن يتحقق حلمي، لا مشكلة لدي في الانتظار، لكن هل نضمن أعمارنا يا ابتني، قد أموت غداً!

شعرت بالاستياء بسبب الجواب الذي تلقاه، ولا أعرف إن كان جوابهم جواب ترضية أم جواب سخرية!

لكن ما أعرفه أن هذا الشيخ الثمانيني فيه روح شاب ثلاثيني متين الجسد، قوي الذاكرة، يهتم بصحته، يحب الفن ويتذوقه، ولديه أحلام يعيش ليحققها! فكم منا ماتت أحلامه ولم يبلغ الثلاثين بعد!

أحسست بالحزن على أبو عبد الله؛ لأن حلمه قد لا يتحقق قريباً، لكني لاحقاً أدركت أنه لربما من الأفضل له أن يؤجلوا تحقيق حلمه، ربما حلمه هو ما يبقيه على قيد الحياة والأمل والتفاؤل، وهو ما يعطيه الطاقة ليستيقظ في الصباح، ويغني ويمارس الرياضة، وأظن لو أنهم اشترطوا عليه أن يكون في التسعين ليظهر في البرنامج الذي يتمناه فسيعيش للتسعين.

تحقق الأحلام هو أمر سيئ أحياناً، وخاصة عند عدم وجود بدائل لها فتنتهي حياتنا بتحقيقها إلا إن كان لدينا من الطاقة والتفاؤل ما يكفينا لنحلم بحلم جديد كلما حققنا سابقه.

أظن أن أبو عبد الله يملك هذه الطاقة فربما ظهوره على شاشة محلية سيجعله يحلم في الظهور على شاشة عالمية، مَن يدري!

أطال الله في عمرك يا عم أبو عبد الله، وقوّاك وأنالك مرادك في الدنيا والآخرة.

ملحوظة:

التدوينات المنشورة في مدونات هاف بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

تحميل المزيد