الإرث الثقيل (قصة الديون الأجنبية لمصر في مائتي عام)

في فترة حكم محمد علي باشا (1805 - 1848) كان حريصاً على عدم اللجوء إلى الاقتراض من الخارج، رغم حاجته الماسة إلى الأموال، وقد رفض بعض القروض التي عرضت عليه من الممولين الأجانب؛ لخوفه من أن يؤدي الدَّيْن إلى تورط مصر وإعطاء ذريعة للتدخل الأجنبي، وقد كان محمد علي باشا على صواب في توقعاته، بعكس خلفائه سعيد وإسماعيل اللذين وضعا في الدائنين الأجانب ثقتهما

عربي بوست
تم النشر: 2017/12/27 الساعة 03:53 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2017/12/27 الساعة 03:53 بتوقيت غرينتش

فى هذا المقال نستعرض كيف تطورت رحلة الديون الأجنبية الخارجية لمصر على مدار ما يزيد عن قرنين من الزمان تبدلت وتحولت أحوال مصر فيها من دولة دائنة إلى دولة مدينة، ثم إلى دولة تعيش على المنح والقروض والمعونات الأجنبية

في البداية نلاحظ أنه في فترة حكم محمد علي باشا (1805 – 1848) كان حريصاً على عدم اللجوء إلى الاقتراض من الخارج، رغم حاجته الماسة إلى الأموال، وقد رفض بعض القروض التي عرضت عليه من الممولين الأجانب؛ لخوفه من أن يؤدي الدَّيْن إلى تورط مصر وإعطاء ذريعة للتدخل الأجنبي، وقد كان محمد علي باشا على صواب في توقعاته، بعكس خلفائه سعيد وإسماعيل اللذين وضعا في الدائنين الأجانب ثقتهما.

واستطاع محمد علي باشا أن يعوض حاجته للأموال عن طريق تطوير موارد الدولة وافتتاح المشروعات الضخمة، وضم الأراضي خارج الإقليم المصري، وبذلك استطاع أن يرتفع بإيرادات الخزانة المصرية من 4 ملايين فرانك في بداية توليه الحكم عام 1805 إلى 90 مليون فرانك عام 1838م، أي أنه ارتفع بحجم الإيرادات قرابة 25 ضعفاً مما كانت عليه، ولم يشجع محمد علي أيضاً دخول البنوك الأجنبية إلى مصر خوفاً من سيطرة الأجانب على النواحي المالية، وهو ما حدث في عهد خلفائه، وبذلك خرجت مصر من فترة محمد علي ليس عليها ديون خارجية للدول الأجنبية.

وفي عهد الوالي عباس حلمي الأول الذي أعقب محمد علي لم يشجع هو الآخر التواجد الأجنبي في مصر ولا الاقتراض من الدول الأجنبية، وبنهاية عهد عباس حلمي الأول ومجيء الوالي محمد سعيد باشا جاء الأجانب إلى مصر من كل الدول الأوروبية وبدأوا في إنشاء البنوك الأجنبية وبيوت المال والرهن العقاري، وبدأ التوسع في الاقتراض من هذه البنوك وبيوت الرهن من قِبَل الوالي محمد سعيد باشا، ومن قِبل الفلاحين المصريين، حتى وصلت ديون مصر في نهاية عصر سعيد باشا إلى 11 مليون جنيه إسترليني (11.160.000 جنيه).

وجاء خلفه الخديو إسماعيل؛ ليتوسع أكثر في الاقتراض والإنفاق ببذخ شديد حتى انتهى عصر الخديو إسماعيل وديون مصر وصلت إلى 126 مليون جنيه إسترليني، وهو رقم ضخم جداً بحسابات تلك الفترة، وفي عام 1876م أفلست مصر وأصبحت غير قادرة على الوفاء بالتزاماتها، وتم تعيين مراقبين أجانب في الحكومة المصرية لمراقبة الإيرادات والمصروفات للحكومة المصرية؛ لضمان سداد الديون التي اقترضتها الحكومة المصرية، الأمر الذي أدى في النهاية إلى الاحتلال الإنكليزي لمصر عام 1882.

وقبيل بداية الحرب العالمية الأولى عام 1914م كانت الديون الأجنبية على الحكومة المصرية قد تراجعت قليلاً حتى وصلت إلى 100 مليون جنيه، بخلاف الديون التي كانت على الأهالي والفلاحين وتقدر بـ43 مليون جنيه اقترضها الفلاحون من بيوت المال والرهن العقاري والبنوك الأجنبية التي فُتحت في مصر أواخر القرن التاسع عشر، وكانت سبباً في خراب واحتلال البلاد والسيطرة على ماليتها، واستحواذ الأجانب على ربع الأراضي الزراعية في مصر وقتها عن طريق أحكام المحاكم المختلطة.

وبدأت هذه الديون في التراجع منذ اندلاع الحرب العالمية الأولى التي استفادت مصر من ظروفها، وتراكمت الثروات لدى المصريين في هذه الفترة، ونتيجة ذلك فإنه في السنوات الأولى التي تلت الحرب تمكن الفلاحون المصريون من سداد ديون الرهن العقاري، وانخفضت الديون التي كانت لبنوك الرهن على الأهالي، ونقصت من 43 مليوناً عام 1914 إلى 29 مليوناً عام 1920 وإلى 26 مليوناً عام 1930.

وتقدر الأموال التي دخلت إلى مصر فترة الحرب العالمية الأولى بـ83 مليوناً بخلاف الديون التي تراكمت لصالح مصر على بريطانيا ووصلت إلى 150 مليون جنيه.

مشكلة الأرصدة الإسترلينية

كان نتيجة استيلاء إنكلترا على نصف رصيد مصر من الذهب عن طريق السير روفائيل سوراس، عندما تم تأسيس البنك الأهلي المصري أن نتج عن ذلك مشكلة الأرصدة الإسترلينية.

والأرصدة الإسترلينية بدأت في عام 1916 أثناء الحرب العالمية الأولى حينما أعلنت إنكلترا أنها لن تستطيع الوفاء برصيد الذهب المصري الذي لديها، وعليه فإذا أرادت الحكومة المصرية إصدار المزيد من الجنيهات الورقية فمن الممكن أن تستعيض عن الأرصدة الذهبية (الغطاء الذهبي) بما يقابله بقيمة سندات تصدرها الحكومة البريطانية، وتتعهد الحكومة البريطانية بسدادها.

وبالتالي كانت الحكومة المصرية كلما أرادت أن تصدر المزيد من الجنيهات الورقية طيلة مدة الحرب العالمية الأولى كانت تستبدل الغطاء الذهبي بسندات على الحكومة البريطانية، حتى تراكمت هذه الأرصدة الإسترلينية (أي السندات) على الحكومة البريطانية طيلة مدة الحرب العالمية الأولى.

ولذلك فقد خرجت مصر من الحرب العالمية الأولى وهي دائنة لإنكلترا بما يقدر بـ150 مليون جنيه نتيجة عمليات إصدار البنكنوت مقابل السندات التي تتحملها الحكومة البريطانية، بالإضافة إلى تكلفة العمليات العسكرية وتمويل مصر لحاجة الجيش الإنكليزي والموارد التي كان يحتاجها جيوش الحلفاء أثناء الحرب.

اختفاء ديون مصر الخارجية

وفيما يخص تتبّع الدين الخارجي على مصر ففي عام 1940 قامت الحكومة المصرية بإلغاء صندوق الدين وتحويل المتبقي من الدين الخارجي إلى دين داخلي بإصدار سندات يشتريها المصريون، وسددت بها ما تبقى من الدين الأجنبي بسندات بآجال ينتهي أقصى أجل لها في عام 1973، وبذلك لم تختفِ أقساط الديون والفوائد من الميزانية المصرية؛ إذ استبدلت بفوائد وأقساط لسندات وديون داخلية.

مصر دولة دائنة بدلاً من مدينة فترة الحرب العالمية الثانية

وفي فترة الحرب العالمية الثانية (1939 – 1945) استفادت مصر من ظروف هذه الحرب كثيراً، ودخلت أموال كثيرة إلى البلاد لا مثيل لها من قبل، وفاقت ما حصلت عليه مصر أثناء الحرب العالمية الأولى، حيث قدّر ما دخل إلى مصر من أموال خلال الحرب العالمية الثانية بـ 500 مليون جنيه (الجنيه الذهب = 97.5 قرش)، بالإضافة إلى أن مصر خرجت من هذه الحرب وهى دائنة لبريطانيا العظمى بـ430 مليون جنيه ديوناً تراكمت على الحكومة البريطانية لصالح مصر، بسبب استمرار مشكلة الأرصدة الإسترلينية، بالإضافة إلى تمويل احتياجات جيوش الحلفاء في المنطقة أثناء الحرب العالمية الثانية.

ولم تستطِع بريطانيا سداد هذه الأموال وطلبت سدادها على أقساط، حتى عندما جاء عام 1956 كان ما تبقى من هذه الديون 300 مليون جنيه لم تسددها إنكلترا، وأعلنت عدم الوفاء بها نظير قيام مصر بتأميم قناة السويس وممتلكات الأجانب في مصر بعد ثورة 1952م.

وعندما جاء عبد الناصر إلى الحكم عام 1956 كانت مصر دائنة لإنكلترا كما ذكرنا، ولم تكن على مصر أية ديون أجنبية في هذا الوقت، ونظراً لتوسع عبد الناصر في الحروب الخارجية في اليمن وهزيمته في عام 1967 واحتياجه لتمويل النفقات الحربية بعدها أثناء حرب الاستنزاف، ظهرت الديون الأجنبية مرة أخرى في الحسابات القومية للاقتصاد المصرى حتى إذا جاء عام 1970 عندما انتهى حكم عبد الناصر كانت الديون الأجنبية على مصر وقتها وصلت إلى 1.7 مليار دولار (مليار وسبعمائة مليون دولار)، وهو رقم كبير بحسابات تلك الفترة.

وعندما جاء السادات للحكم عام 1970 كان يحتاج للتمويل الخارجي قبل حرب عام 1973 لنفقات تسليح الجيش المصري، ثم بعد الحرب لتمويل الاقتصاد المصري؛ حيث إن الاقتصاد المصري وقتها كان يحتضر؛ إذ كانت الخزانة العامة تعاني بشدة، وكذلك متطلبات عملية إعادة الإعمار بعد الحرب لمدن القناة، والبدء في بعض مشروعات التنمية، فتم اللجوء للاقتراض من الخارج، بالإضافة إلى التوجه للانفتاح الاقتصادي وقتها الذي كبَّد ميزان المدفوعات المصري عجوزات متتالية لم يكن بالإمكان سدادها إلا باللجوء إلى الاقتراض من الخارج، حتى إذا أتينا عام 1981 وهو نهاية فترة حكم السادات كانت الديون الأجنبية قد وصلت إلى 15 مليار دولار.

تولى مبارك الحكم عام 1981 وبعد أقل من عشرة أعوام فقط نتيجة لسوء التخطيط وضعف الاقتصاد المصري، الذي أخذ النمط الاستهلاكي في ظل ضعف قدرته على التصدير ارتفعت الديون الأجنبية من 15 مليار دولار عام 1981 إلى 52 مليار دولار عام 1990، ففي أقل من عشر سنوات زاد الدين الخارجي بمقدار 37 مليار دولار، ولم تكن هناك حرب كالتي خاضها السادات.

وفي عام 1990 أصبحت مصر عاجزة عن سداد الفوائد والأقساط، وفي نفس الوقت نشبت حرب الخليج وكان في ذلك مصلحة لمصر؛ حيث تولت القوات البرية المصرية إخراج القوات العراقية من الكويت، وكان نظير ذلك أن قامت الولايات المتحدة والدول الدائنة أعضاء نادي باريس ودول الخليج بإسقاط نصف الديون الأجنبية التي على مصر، وتراجع حجم الدين الخارجي إلى 27 مليار دولار.

بعد ذلك سارت حكومة رئيس الوزراء الدكتور عاطف صدقي بخطة اقتصادية جيدة، ونجحت في تخفيض الديون الأجنبية، ومن بعدها أكملت حكومة الدكتور كمال الجنزوري نفس الطريق، حتى إذا جاء عام 1999 بنهاية حكومة الجنزوري ومجيء حكومة عاطف عبيد كانت الديون الأجنبية وقتها وصلت إلى 11 مليار دولار فقط، ثم بدأت في التزايد من جديد مع حكومة عاطف عبيد، على الرغم من حصوله على عائدات حصيلة الخصخصة ببيع الشركات والمصانع المصرية وإبرام عقود انتفاع الثروات المصرية كالبترول والغاز.

وعاودت الديون الأجنبية الزيادة من جديد لتصل إلى 18 مليار دولار عام 2004 عند رحيل حكومة عاطف عبيد ومجيء حكومة الدكتور أحمد نظيف.

واتجهت حكومة الدكتور أحمد نظيف هي الأخرى إلى التوسع في الاقتراض الخارجي حتى وصل رصيد الدين الخارجي إلى 34.8 مليار دولار عام 2011 عندما قامت ثورة يناير/كانون الثاني وتنحي مبارك عن الحكم.

وخلال العام والنصف تقريباً التي قضاها المجلس العسكري برئاسة المشير طنطاوي في الحكم لم تشهد الديون الأجنبية تغيراً يذكر بل بالعكس انخفضت من 34.8 إلى 34.4 مليار دولار، أي بمقدار 200 مليون دولار.

وفي خلال العام الذي حكم فيه الدكتور محمد مرسي ارتفعت الديون الأجنبية من جديد من 34.4 عند توليه الحكم إلى 43.2 مليار دولار، أي بزيادة بلغت 8.8 مليار دولار وهو معدل كبير في عام واحد.

وفي الفترة الانتقالية برئاسة رئيس المحكمة الدستورية المستشار عدلي منصور ارتفعت الديون الأجنبية خلال هذا العام من 43.2 إلى 46.1 مليار دولار، أي بزيادة قدرها 2.9 مليار دولار.

وبمجيء السيسي عام 2014 ورغم المنح التي تلقاها الاقتصاد المصري من دول الخليج العربي والتي قُدرت بحوالي 30 مليار دولار، إلا أنه على الرغم من ذلك فقد ارتفعت الديون الأجنبية من 46.1 مليار دولار عام 2014 إلى 74 مليار دولار عام 2017، أي بزيادة قدرها 27.9 مليار دولار في ثلاث سنوات فقط، أي بمعدل أكبر مما اقترضه مبارك في فترة حكمه كلها خلال ثلاثين عاماً.

وإذا أضفنا إلى رقم القروض الضخم هذا المقدر بـ27.9 مليار دولار، إذا أضفنا إليه رقم المنح التي قدرت بحوالي 30 مليار دولار، أي أننا أمام رقم يقترب من الستين مليار دولار، دخلت مصر في الأعوام الأربعة الماضية، ومع ذلك لم يشعر المواطن بتحسن بل بالعكس تم رفع الرسوم والضرائب والأثمان العامة والخدمات أكثر من مرة.

والسبب في ذلك كان سوء التخطيط وعدم تحديد الدولة لأولوياتها الاقتصادية، فكانت بعض المشاريع القومية مستنزفة لقدرات الاقتصاد المصري أكثر من إضافتها قدرات إنتاجية جديدة فضاعت القروض والمنح الدولية في سداد فاتورة الاستهلاك المحلي تارةً وفي الدفاع عن الجنية المصري قبل تحريره تارة أخرى.

ولو أنه تم إنفاق هذه المبالغ الضخمة في مشروعات تنموية وتهيئة البنية التحتية والخدمات العامة لكان قد تغير وجه مصر تماماً ووضعت على بداية طريق التنمية الحقيقية، لكن لم يستفَد من هذه الأموال في التنمية، وأُنفقت في أغراض أغلبها استهلاكية أو غير ضرورية لا تتفق مع ثقافة الأولويات.

وإذا استمر الدين الخارجي بنفس متوسط معدل الزيادة السنوية الأخيرة، فإنه في خلال ثلاث سنوات أو أقل سيتجاوز الدين الخارجي 100 مليار دولار، ولذلك يجب على واضعي السياسة الاقتصادية المصرية أن ينتبهوا إلى خطورة المرحلة القادمة، وهي أن تضطر الحكومة المصرية إلى استدانة ديون جديدة من أجل سداد الديون القديمة، بما يعني أننا أمام ثقب أسود سيبتلع كل مجهودات التنمية، مما قد يضطر مصر مستقبلاً إذا استمر هذا الوضع إلى العجز عن الوفاء بالأقساط والفوائد في مواعيدها، وطلب جدولة الديون التي يتطلب من الحكومات فيها خطط اقتصادية تقشفية صارمة، أو يخضع بعض أصولها للإدارة الدولية لحين انتهاء سداد أقساط الديون.

ملحوظة:

التدوينات المنشورة في مدونات هاف بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

علامات:
تحميل المزيد