يبدو أن روسيا هى المستفيد الرئيسي من المحاولة الانقلابية الفاشلة في تركيا، التي جاءت لتزيد من تعقيد علاقات تركيا مع أوروبا والولايات المتحدة، أبرز كُتاب الأعمدة في الصحف الموالية لحزب العدالة والتنمية يؤكدون الادعاءات الخاصة بتورط واشنطن وبعض دول الاتحاد الأوروبي في محاولة الانقلاب، وللمرة الأولى في أنقرة يصبح هناك نقاش جدي حول عضوية تركيا في حلف شمال الأطلسي؛ حيث تساءل البعض عما إذا كان يجب البحث عن شراكات استراتيجية مع روسيا لتحل محل العلاقات مع الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي، فحجم وعمق عمليات التطهير بعد الانقلاب عجَّل بتدهور العلاقات مع حلفاء تركيا الغربيين، خاصة مع إعلان أردوغان إعادة هيكلة الجيش التركي (إحدى ركائز الجمهورية العلمانية وثاني أكبر الجيوش في الناتو)، وبالفعل أصبح مصير 40-50% من قادة الجيش التركي ما بين الاعتقال والإقالة من المنصب، كما أن رفض فكرة أن تكون تركيا الدولة المسلمة صاحبة عضوية كاملة في الاتحاد الأوروبي، التي تتبناها فرنسا وألمانيا (حسب تصريحات سابقة لأردوغان وأيضاً طبقاً لما كتبه ديفيد غاردنر لاحقاً في الفاينانشيال تايمز)، تساعد أردوغان كثيراً للتحول بعيداً عن أوروبا.
عقب المحاولة الانقلابية، كان بوتين من أوائل المتصلين بالرئيس التركي أردوغان، في بادرة تضامن، معلناً أن روسيا ترفض الإجراءات غير الدستورية والعنف في الدولة، وفي خطوة قد تكون استرضاء لروسيا، نأت القيادة التركية بنفسها عن طياري المقاتلة التركية المسؤولين عن إسقاط الطائرة الروسية، وقال أردوغان إن الطيارين تم اعتقالهما للاشتباه في تورطهما في محاولة الانقلاب، فالأرجح أن مؤشر السياسة الخارجية التركية سيتجه لتعزيز المصالحة بين الزعيم التركي والرئيس الروسي فلاديمير بوتين، لاسيما أن الرجلين لهما وجهة نظر مشتركة، وهي معارضة فكرة أن القيم الغربية تمثل نموذجاً عالمياً لجميع المجتمعات، وهذا ما يثير قلق بعض الأقلام الليبرالية والعلمانية في تركيا، فعلى الرغم من إدراكهم الأهمية الاستراتيجية للتحالف مع روسيا، فهم يأملون في استمرار العلاقات التركية – الأوروبية وعدم إغلاق ملف الانضمام للاتحاد الأوروبي، وذلك للحد من الاتجاه المحافظ لحكومة "العدالة والتنمية".
وهذا ما يضفي أهمية بالغة على اللقاء المرتقب بين الرئيس الروسي فلاديمير بوتين والرئيس التركي رجب طيب أردوغان؛ حيث تستضيف روسيا الرئيس أردوغان في سانت بطرسبرغ يوم 9 أغسطس/آب. وهو أول لقاء يجمع بينهما منذ إسقاط الطائرة الروسية في نوفمبر/تشرين الثاني من العام الماضي، كان اللقاء مخططاً له في إطار تطبيع العلاقات التركية – الروسية، عقب إرسال أردوغان رسالة إلى نظيره الروسي "فلاديمير بوتين"، نهاية يونيو/حزيران الماضي، أعرب فيها عن حزنه حيال إسقاط الطائرة الروسية، وتعاطفه مع أسرة الطيار القتيل، قابلتها روسيا بإلغاء حظر سفر السياح الروس إلى تركيا، وإلغاء حظر بعض المنتجات الغذائية التركية، سوف تترقب العيون ما تسفر عنه محادثات بوتين وأردوغان.
أهم ما يضمه جدول أعمال الاجتماع الرئاسي بين بوتين وأردوغان
• مشروع "السيل التركي" الذي توقفت المفاوضات حوله بعد إسقاط الطائرة الروسية، ومع البدء بتطبيع العلاقات تم استئناف المفاوضات بين البلدين حول خط الغاز الجديد الذي إذا بني من شأنه أن يعطي روسيا القدرة على إنهاء اعتمادها على أوكرانيا كدولة عبور للطاقة الروسية لوسط وجنوب أوروبا.
• أردوغان يريد مساحة أكبر في سوريا: تدخل روسيا في سوريا لإنقاذ حليفها الأسد قلص كثيراً من الدور التركي وأصبحت خيارات تركيا محدودة تماما، الآن تركيا تريد أن تحصل على الأولويات فقط في سوريا، وهي مكافحة الدولة الإسلامية (ISIS) وإنهاء التوسع الكردي في شمال سوريا. بالطبع بوتين يستخدم ذلك كورقة مساومة للحصول على تنازلات من أردوغان في مكان آخر، فروسيا تريد التأكد من أن تركيا لن تشارك الناتو في أنشطة البحر الأسود أو في نشر قوات بالقرب من حدودها لردع روسيا، في حين أن تركيا تريد أن يصبح شمال سوريا ضمن نطاق سيطرتها.
روسيا صاحبة اليد العليا في المفاوضات
روسيا ستكون صاحبة اليد العليا في المفاوضات حول سوريا، فبالإضافة لتخلي حلفاء تركيا الغربيين عنها وتركيزها حالياً على الداخل للتعافي من آثار المحاولة الانقلابية، فروسيا هي المتواجدة ميدانياً في سوريا، بجانب أن تطهير أردوغان للجيش يؤثر على قدرته على ردع الأعمال الروسية العدوانية في سوريا قرب الحدود التركية، ويعطي الرئيس الروسي فلاديمير بوتين فرصة للاستفادة من الارتباك داخل الجيش التركي في مواصلة تمدده بالبحر الأسود، وشرق البحر الأبيض المتوسط، وجنوب القوقاز، لكن هذا الاجتماع يأتي في ظل حشد دفاعات للناتو بالقرب من روسيا، وأيضاً في ظل استطاعة المقاومة المسلحة التي تدعمها تركيا كسر الحصار حول حلب، وهنا تتجلى حقيقة أن روسيا لم تنجح إلى الآن في تحقيق استراتيجيتها المعلنة في القضاء على الإرهاب. سوريا هي نقطة الخلاف الرئيسية بين البلدين فهل ينجحان في إيجاد تسوية ما؟ يقول وزير الخارجية الروسي لافروف بعد محاولة الانقلاب الفاشلة إن مستقبل العلاقات التركية – الروسية يعتمد على موقف تركيا من سوريا.
ومن ناحية أخرى، يشعر الاستراتيجيون الغربيون بالقلق إزاء الآثار المترتبة على الشراكة الاستراتيجية المحتملة بين روسيا وتركيا، وفقدان هذه الدولة المحورية التي تعتبر الحصن التقليدي للغرب في شرق البحر الأبيض المتوسط، سواء ضد الفوضى النابعة من الشرق الأوسط، أو لاحتواء التوسع الروسي.
باختصار، تقف السياسة الخارجية التركية الآن عند مفترق الطرق، خاصة إذا لم تستطِع تركيا إقناع واشنطن بتسليم غولن، ومع إظهار رغبة أنقرة في إعادة تطبيق عقوبة الإعدام، فمن المرجح أن تسوء أكثر العلاقات بين الاتحاد الأوروبي وتركيا ويفشل اتفاق اللاجئين. وتضطر أنقرة للجوء إلى روسيا. في 2014 وصف الرئيس التركي أردوغان حلفاءه الغربيين قائلاً: "يبدون وكأنهم أصدقاء ولكنهم يريدون الموت لنا".
ملحوظة: التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.