جلستُ هناك أنظر نحو السماء لعلي أرى نفسي حراً طليقاً أُعانق السحاب، أطير مع أسراب الطيور بعيداً على طول شاطيء البحر الأزرق البرَّاق؛ جلستُ لأستمع لصوتِ الموج يعزف أعذب الألحان كأنها ترانيمٌ يطربُ عند سماعها الإنسان.
هربتُ من وجعي لسماع دوي الرصاص والدمار، وصواريخُ ترمى على أطفالنا في وضح النهار، تسقطُ أمام مرأى عيوننا والعالم غافلٌ وغارقٌ على ضرب الطبلِ وأنغامِ المزمار.
جلستُ قليلاً أحدثُ نفسي.. وأتأمل، كم أحب أن أنظر بعيداً، هناك حيث يلتقي سطح البحر مع السماء الزرقاء، هناك في الأفق البعيد. أجلس على الكرسي وأنظر أمامي أنتظر غروب الشمس التي تلاعِبُها غيوم السماء البيضاء تاركة أمامي ألواناً جميلة، تبعث في النفس الهدوء والطمأنينة مع لون الغمام القطني الهادئ.
تُلقي الشمس سهامها على أمواج البحر المتراقصة على مدِ بَصري، تشق طريقها حتى رمال الشاطئ؛ حيث أجلس وأنتظر المغيب.
أرى رجلاً يحمل صنارة يرمي بها لعلها تُشبِع فضوله حول كنوز هذا البحر وما يحمل في داخله من حكايات قديم الزمان، أرى أولاداً يلعبون ويركضون في كل مكان يعيشون براءة الطفولة التي يُحرَمُ منها الكثيرون في بلاد تصيح أبنيتها من ظلم الإنسان.
كم منا ينظر إلى البحر، هناك بعيداً ويتمنى أن يذهب مع أمواجه عند المغيب ليستقر في واقع غير واقعه، وعالم غير عالمه، يريد أن يكون ويحقق أحلامه التي حولتها حكوماتنا إلى كوابيس وأوهام، على أقل تقدير هو يريد أن يكون إنساناً، يعيش بكرامته التي خلقها الله بنا بالفطرة.
قال تعالى: (وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَم وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرّ وَالْبَحْر وَرَزَقْنَاهُمْ مِنْ الطَّيِّبَات وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِير مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاً) سورة الإسراء.
ألا يمكن أن نكون كسرب الحمام، هناك يطير حراً في كل مكان! ألا يمكن أن نكسر تلك الحدود التي كبّلنا أنفسنا بها بعد استعمار غاشم جثم على أرضنا؟ ذهبت الغربان وتركوا خلفهم ذئاباً تنهش من براءة أمتنا تسرق خيراتها لتُطعِمَ الغِربان الراحلة بعيداً خلف تلك البحار.
ضاقت بنا الأرضُ حتى أصبح وقوفنا عند شواطئ البحر مكاناً لأحلامنا المأسورة في عروبتنا.
ما زالت الشمس تهبط على مهلٍ مع عقرب الساعة، تقترب من خط المغيب، وفي كل ثانية تذهب تزداد حرارة ألوانها ويزداد جمالها، تحول الشفق إلى اللون البرتقالي يميل إلى الاحمرار، ويتحول البحر إلى اللونِ الأزرقِ الغامق المائل للسواد، يتركنا نعيش مع واقعنا المعتم، يتركنا مع سواد قلوبنا التي تشبه حجارة البازلت السوداء المترامية على طول الشاطئ الحزين، بجانب النساء اللاتي يتلفحن بالقماش الأسود والعباءات السود التي تخفي خلفها معاناة التعصب ورغبة الانفتاح، تخفي خلف خمرهن تناقضات الحلال والحرام خلف قضبان أشجانهن وضعفهن.
تحولت السماء إلى لونٍ رمادي، وقرص الشمس ما زال يضيء وحيداً الآن، ينتظر أن يبتلعه البحر أمامنا، تاركاً خلفه واقعاً آخر لا نعرف فيه سوى الليل الحالك وديهور البحر الذي تلاشى جماله أمامنا.
أصبحنا الآن في واقع جديد نتعايش فيه مع أهل الليل وسهره وأحزانه، نُسامر الألم وأشجانه، نُقفِلُ فيه أحلامنا بين جدرانه ونوقد نار الشوق في قلوبنا وندمع على ألحانه.
لا شيء يشفي غليلنا سوى الفجر نصحو على آذانه. ذهب النهار بصخبه وحل الليل بحفلاته الماجنة التي ترقص على أشلاء مستقبل أطفالنا.
غابت الشمس وبقيت بعض السحُبِ تتزين بلون الشفق البنفسجي، تنسحب بهدوء وتستسلم الألوان لسواد الليل ليسود الظلام وحده في السماء، ما زلت جالساً أنتظر الليل وأودع النهار وأوقاته الجميلة، تاركاً قلمي يدوّن أحداثه في الماضي، بدلاً من ذاكرتي التي أتعبتها تقلبات الحياة وقسوتها.
نسرد الكثير من الأخبار ويبقى في القلب آلاف الأسرار، شيء يحكى ويقال وكثير يبقى في القلب له قرار.
غادرتُ وفي قلبي حكاياتٌ بدأت من صباح هذا اليوم وانتهت عندما تركت مكاني يأخذه خفافيشُ الليل، ذهبتُ لأنام لعلي أحظى بيوم جميل بعيداً عن تشاؤم الحياة وبحثاً عن سعادة نخلقها في جيلٍ جديد لا يعرف سوى أمل يبني عليه جسراً لمستقبل أفضل من حاضرنا هذا.
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هاف بوست لا تعبر عن وجهة نظر ش تحرير الموقع.