أبي في العناية المركَّزة

آراك ممدَّداً من بعيد بين لحظة وأخرى، أسرق فيها نظراتي نحوك، فقد شاءت الأقدار أو الحظوظ أن تكون قريباً من عيني في لحظة انفتاح الباب وغلقه في ثانية وأخرى، أجدك ما زلتَ مستيقظاً بين الخوف والإعياء.. فهل أنت بخير؟!

عربي بوست
تم النشر: 2017/02/25 الساعة 01:32 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2017/02/25 الساعة 01:32 بتوقيت غرينتش

لم أفهم لماذا انقبضت حينما صارت دهشتك من تلك الغرفة؟ أجدك يا أبي تريد أن تختبئ بي كعادتي أنا حينما كنت طفلاً.. نظرات تلقيها عليَّ كآخر مشهد قبل غلق الأبواب.. "لا تتركني!"، وقلبك معلق في عيني.. لقد أغلقوا الأبواب ولست أعلم إن كنت ما زلت تتوقع دخولي مرة أخرى لتشعر بأماني معك.. أم أن أنفاسك بدأت تتسارع في خوفها، فهذا ما أشعر به؛ لعل هذا هو ما يصيبك الآن.

آراك ممدَّداً من بعيد بين لحظة وأخرى، أسرق فيها نظراتي نحوك، فقد شاءت الأقدار أو الحظوظ أن تكون قريباً من عيني في لحظة انفتاح الباب وغلقه في ثانية وأخرى، أجدك ما زلتَ مستيقظاً بين الخوف والإعياء.. فهل أنت بخير؟!

لم أفهم لماذا وجدتني منفصلاً في الدعاء من أجلك، لا أجد قلبي يتمنى لك الشفاء، ولا يتمنى لك الرحيل من آلامك، فربما هول الصدمة، أو ربما لأنني لا أثق فيه كقوة عظمى -حاشا لله- لكن كلماتي لم تنطق وقلبي كان مأسوراً في هذا الانفصال.

تسارعت خطواتي وأفكاري معاً، وقلبي التزم الصمت، أكثر ما كان يشغلني "أرجوك ألا ترحل.. فأريد عند مفارقتك أن أكون حزيناً عليك ولست غضوباً منك، أريد أن أكون مشتاقاً لملاقاتك وحضورك وليس متوتراً من غيابك، وأعيش أسيراً لفراقك وفقدك.

والآن أنظر إليك، إن كان المرض أصاب خلايا المخ بذاكرته، فهل سأظل أنا في باقي الخلايا أعيش، فأنت ابني الآن، والأدوار تبدلت، لا أريد فراشك مبللاً ولا أريدك تبكي، فتلك الدموع تذبح منّي شبابي الآن، لا تخف يا جبار، يا من أعنت الكل، يا من كنت محوراً للكل.. فما زلت أنت الجبار، وما زلت أنت الأب، وما زلت سنداً، فروحك أوجدت فيَّ ما أعيشه الآن.

أتفاوض معك كالأطفال، مثلما كنت تخدعني بخدعة الدواء، لكن العجيب حينما تكررت معك، انطلت عليك، وأنت مخترع هذا الخداع، فهل لأنك تناسيتها وماتت مع تلك الخلايا أم أنك تعلَّقت في دور الطفل، لا تنسَ أنني ما زلت الابن، لكني سأدعك تتمتع بأبوَّتي لك.

أرعبتني تلك النكسات، فأخذت أحتسب تعداد أنفاسك وتسارعها حيناً بعد أخرى، لا أستطيع مواجهة الفقدان هذا، أتمنى أن أحمل معك هذه الأنفاس، كنت أحترق كلما يزداد علو صدرك، أتهيأ لهذا المشهد.. ولكن لا أريده.. لم أرَه قط، ولا أريد أن أعلم عن تفاصيله، وتظل ذكرى تأسرني كلما تذكرت وجوده؛ لذلك أشعر الآن برغبة شديدة للرحيل، ولا أعلم لماذا لكني أريد الرحيل، قبل أن يفكر أحدهم في الرحيل، لا أجد شريكاً يحمل معي، أشعر أن كل طاقاتي مجبرة على أن تخدم لأجل فقط عمر مضى هو ما يشهد للخدمة.

هل تعتقد أنني لم أكن مألوفاً للبعض؟ لكني لم أكن حميمياً لهم، وما زلت، فأبوّتي لم تجذبهم ولا حتى طفلي لم يصر محل حبهم، إنما نضجك يجعلك حماية لهم لظروف ما ثم يغيب الكل.. وتبقى أنت كابن وحدك.

لم أشعر بالوحدة مثلما شعرت بها الآن، فأبي مريض، وأمي لا أقدر علي أن أفهمها أو أصوغ أمومتها، الأقارب في زاوية القضاة أو المخبر.. مَن يتعقب أثرك بالجلد، الأصدقاء والإخوة لا يتبادلون معك وجودك في هذا المأزق، وجودهم باهت، غير معلوم، ولا أريد رؤيتهم فالغضب هو ما يواجههم عني، لا أريد أن يتفهمني أحد يبعد عني بأجيال، فهذا يشعرني وكأنني من العَجزة، وكأن هناك مَن يحاول أن يجعلني شيخاً مرة أخرى، تلك الأريكة بجانب سرير أبي في المستشفى علمتني أنني ما زلت على الرفوف أنتظر احتمالية الشعور بي، فالاغتراب عن نفسي جعلني معلقاً بالاحتماليات.

تلك الصورة السوداء تأتي برغبة أكيدة أنني وإن كنت على الحبل يوماً فإنني أصبت الاختيار ولا داعي لأن أقدر تكاليف دفني، فربما هذا الغيب العدمي أفضل من تلك الرؤية الوجودية لهذا العالم الساخر.. إنني غاضب لأنني أرى وأبصر وأعي، أتمنى أنني كنت أعمى ولا أبصر، فعلى الأقل لن أكون الآن في هذا الصراع الهزلي، والحساب المدفوع ثمنه من دمي، فتباً لكم جميعاً.

أريد الرحيل بعيداً، ليس سواي أنا وسلامي لذاتي، أريد أن أترك أفكاري حتى حواسي وغرائزي، حتى كل وظائفي البيولوجية، نعم أريد الرحيل ولكن بشروط.

لا أعلم لماذا أريد أن أنقطع عن كل هذا، هل لأنها منبع لذاك الاضطراب الذي يفصلني؟
لست أعلم، ربما أريد أن أبتعد عن بعض الذكريات،
لا لا كلها أيضاً، ربما أريد أن أبتعد عن الإدراك العقلي لكل ما هو غير واعٍ، وربما ما هو واعٍ، ربما أريد ذلك الغيب العدمي.

ربما أريد أن أبتعد عن مستقبلي ومخاوفي منه، تلك اللحظة الآتية التي لا أعلم عنها شيئاً، ربما أريد أن أبتعد عن كل شخص تعرفت عليه في الماضي لا أريد حضوره في حاضري هذا، فربما ما زال يحكم عليَّ من الماضي ولا يعلم إن كنت أسوأ مما كنت، فيطلق أحكامه الأخرى وربما أفضل مما كنت، فلا يكتفي إلا بأحكامه، أو أنتظر احتمالية أن يتغير مفهومه.

ربما أريد أن أبتعد عن عيوبي وأيضاً كل ما أخجل منه، وأريد أن أبتعد عن أجزاء من جسدي، وليست كلها، أريد أن أبتعد حتى عن أي جسد لجسم آخر، لا أريد أن يضع جسدي ويعقد مقارنة مع آخر.

أريد الرحيل عن تلك الأرجوحة التي تصيبني بعيداً في اليأس تارة وفي النشاط والسعادة تارة أخرى.. أريد الاستقرار.

أريد الرحيل عن الحزن فربما أنا مدين له، أريد الرحيل عن الإنجاز، فإرهاقه يصيبني بالملل وليس الفرح، أريد الرحيل عن كل الناس لمن يخذلني أو ما زال لم يترك عهده معي بعد.

أريد الاكتفاء وأريد السلام، وربما لا أريد الله، وربما لا أريد كل ما هو متدين، ربما أريد أن أموت.. بالطبع لا.

أريد فقط الرحيل، وليس الاغتراب، ربما رحيلي هذا يعطيني نشوة السيطرة على كل الأحداث، وربما أريد الرحيل عن المرض والإرهاق البدني، ربما أريد الاسترخاء، ربما أريد ذاك النسيم العابر دون زحمة وجود أيضاً من أحبهم، ربما أريد الصمت وأريد ألفة مودَّتي والحديث الحميم.

ربما أريد هاتين اليدين اللتين تحتضنانني فقط دون صاحبهما، ربما أريد قبلة من أحب دون شفتَيه، ربما أريد تلك العلاقات الحميمية دون غرائزها ودون رفقة الطرف الآخر، ربما أريد فقط راحة وجودهم، ربما لا أريد غير الرحيل دون أعباء السفر ودون الإعداد له، وأريد ما أريد دون ما أتمناه فربما يصعب تحقيقه، وأريد البعد عن أحلامي تلك الخيالية واليقظة،. ربما حتى الطموح أريد البعد عنه.

فما أريده أن ينفد رصيد ما لا أريده، ربما أريد أن أكف عن قول أريد، ربما أريد الغناء دون الالتزام بتلك النغمات المنظمة، ربما أريد العزف على تلك الآلات دون عذاب التعليم عليها، ربما أريد الشهرة دون غيرها وعلى الرغم من رغبتي في الرحيل هذا، ربما أريد تلك الفتاة الحسناء، ذات القوام المرسوم من الخيال، ربما أريد لي نسلاً من الأطفال الصالحين، وربما أريد أن أتوقف عن تلك الكمالية وربما أريدها أيضاً.

أريد أن أشعر بكل ما هو حسن وأريد أيضاً إلا أشعر، أريد أن أرحل وأريد أيضاً ألا أرحل، أريد الوحدة، ليست بالاختيار الأوحد، أريد أن ألقي عن كاهلي المسؤولية ولا أريد ملكوتاً يغنون فيه بدون عناء بعد مثابرتهم في أرضنا التي يعمها الشقاء، ربما أريد كل الغنى وكل الفقر أيضاً، ربما أريد ولا أريد ذات الأشياء، لا أريد الظروف ولا أريد المفاجأة أيضاً..لا أريد الأسر ولا أريد الاحتياج، ولا أريد أن أكون عبداً للرضا ونوالاً للرحمة والجزاء أو العقاب.

ربما كل ما أريده هو كوب من القهوة مع بعض الأوراق وذاك النسيم الذي يتخلل ضوء الشمس في نهاية فصل الشتاء، ويغنيني عن كل هذا.

ملحوظة:

التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

تحميل المزيد