المغرب العربي والفصل الثاني من مؤتمر كامبل بنورمن

مساعي الغرب كما أشرنا في البداية تهدف إلى ضرب النسيج الاجتماعي وخلق أقليات من العدم، وتمهيد الطريق أمام المزيد من التقسيمات، ورهانها لا يقتصر على دعم دعاة الأمازيغية بل يتجاوزه إلى ضرب الإجماع المغاربي حول الدين الإسلامي

عربي بوست
تم النشر: 2017/09/03 الساعة 06:11 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2017/09/03 الساعة 06:11 بتوقيت غرينتش

كامبل بنورمن مؤتمر منسيّ مضى على انعقاده أكثر من قرن من الزمان وما زلنا إلى اليوم نجني نحن العرب ثماره المرة، كانت بريطانيا زعيمة العالم الاستعماري آنذاك قد دعت إليه كلاً من فرنسا وإيطاليا وبلجيكا وهولندا وإسبانيا من أجل وضع مخطط لتفتيت الوطن العربي والحؤول دون اتحاده بعد الانهيار المرتقب للدولة العثمانية، ومن أهم التوصيات التي خرج بها بعد عامين من الانعقاد هي إنشاء كيان غريب ومعادٍ للمنطقة يفصل بين عرب المشرق وعرب المغرب، وهو ما يسمى اليوم زوراً بـ"إسرائيل" وأن يدين هذا الكيان المسخ بالولاء للغرب، وأن تسعى الدول الاستعمارية إلى جعل المنطقة في حالة اضطراب دائم يؤخر نهضتها ويجهض اتحادها، وذلك بالعمل على ضرب تناغمها الاقتصادي والسياسي والثقافي حتى تنتقل التفرقة من الحكام إلى الشارع، وذهب المؤتمر إلى اعتبار شعب جنوب المتوسط شعباً واحداً له من مقومات الوحدة، ما ليس لأوروبا، وإن في وحدته إن اكتملت عقب أخيل الإمبراطوريات الشمالية.

من المهم التذكير بأن المؤتمر المذكور قد قسم العالم إلى ثلاثة أقسام:

1) القسم الأول: أميركا الشمالية وأوروبا وأستراليا أو الغرب المسيحي، وهي الدول التي يجب أن تكون متكاتفة فيما بينها لتقود قاطرة العالم.

2) القسم الثاني: اليابان وكوريا وأميركا الجنوبية وغيرها، وهي الدول التي يجب احتواؤها ودعمها دون السماح لها بالتحول إلى قوى عظمى حتى لا يتسنى لها الانضمام إلى القاطرة الأولى.

3) القسم الثالث: يضم الدول الإسلامية والعربية بشكل دقيق وهي الدول التي لا يجب أن تتمكن من أسباب التطور والتفوق وعلى الدول الاستعمارية محاربة أي مساعٍ قد تقود للاتحاد فيما بين هذه الأقطار.

إنّ زحفنا الحثيث اليوم نحو الديستوبيا هو نتاج تفاني الغرب في تطبيق توصيات المؤتمر المذكور، وإغفال العرب لأهميته، فلا نكاد نجد له أثراً في دروس التاريخ التي يتلقاها أبناؤنا، ولا نكاد نذكره في إعلامنا الساخر من كل حديث عن مؤامرات الغرب ودسائسه، ويبدو أن صناع المؤتمر الذي استمر بين عامَي 1905 و1907 وورثتهم اليوم في عالم السياسة الغربية لم يكشفوا بعد عن كامل بنوده أو توصياته، ونجزم أن غايته المنشودة بعد ضرب عوامل الوحدة بين الأقطار العربية هو تفتيت النسيج الاجتماعي لكل قطر على حدة، من خلال إحياء الضغائن الإثنية والدينية ورعاية الأقليات أو خلقها من العدم، وحثها على التمرد والمطالبة باستقلالها السياسي حتى تتلاشى تلك الأقطار، وتتحول إلى دويلات أشبه بأكشاك في صحراء الخليج، وعلى ضفاف المتوسط لا حول لها ولا قوة في ميزان القوى العالمي.

بعد نجاح الفصل الأول من مخططات بنرمان بإنشاء دولة الكيان الصهيوني، وتفتيت الأمة العربية إلى أقطار متنافسة فيما بينها حيناً ومتناحرة أحياناً، كان يجب على دول الاستعمار المرور إلى الفصل الثاني، أي تفتيت المفتت لضمان ديمومة حالة الفرقة بين الأشقاء، ويتم ذلك إما بالتدخل العسكري المباشر، كما في الحالة العراقية والسورية والليبية واليمنية، أو بتغذية الأقليات ودفعها إلى التمرد على الوطن، والمطالبة بالانفصال كما في بقية الأقطار العربية كالسودان الذي انتهى به الأمر إلى التفتت التدريجي، وتونس الجزائر والمغرب التي تتعالى فيها أصوات الأمازيغ مطالبين بحقهم؛ إما في دولة قومية أو بإخراج الدول الحاضنة من محيطها العربي، وتحويلها إلى دول فسيفساء هي خليط من عرب وبربر، واعتبار الفتح العربي غزواً، والقابض على عروبته تابعاً أو حفيداً لأولئك الغزاة.

اختلفت أسباب تأجيج المسألة الأمازيغية في المغرب العربي، لكننا سنسلط الضوء تحديداً على الدور الفرنسي الذي أحيا تلك المطالب إبان الاحتلال المباشر ثم دعمها وأطرها بعد طرد قواته على يد المقاومين، ويعود الفضل إلى المستعمر في إحياء اللغة الأمازيغية ومدها بمقومات اللغة، وجدير بالذكر أن القس الفرنسي الشهير شارل دي فوكو كان قد وضع واحداً من أهم معاجم الأمازيغية مترجماً إلى الفرنسية في بدايات القرن الماضي، كما أصدر الاستعمار سنة 1936 في الجزائر قانوناً يعتبر اللغة العربية لغة أجنبية، وأنشئت في نهاية الستينات الأكاديمية البربرية ومقرها العاصمة الفرنسية على يد مهاجرين مغاربة.

وإنه لمن سخريات القدر أن ترتدي الضفة الشمالية للمتوسط جلباب الحامي للثقافة الأمازيغية، والحال أن خراب قرطاج وزوال حكمها لم يأتِ إلا من تلك الأرض التي يحتمي بها دعاة الأمازيغية اليوم.

الهوية الأمازيغية وفق بحوث عدد من كبار المؤرخين قديماً وحديثاً ليست مستقلة عن العرب، بل يذهب ابن خلدون إلى التأكيد على أنهم "أي الأمازيغ" من الكنعانيين، ويقول في كتابه المقدمة: إن أحد ملوك التبابعة وهو إفريقش بن قيس بن صيفي قد غزا المغرب مصحوبا بالآلاف من أتباعه، وباسمه سميت إفريقية، ويتماهى المؤرخ التونسي عثمان الكعاك مع ابن خلدون فيشير إلى أن البربر قد قدموا من الجزيرة العربية، وبذلك فإن الوحدة بين سكان المشرق والمغرب تتجاوز اليوم عنصر اللغة والدين إلى عنصر العرق.

وهب أن بحوث الكعاك وابن خلدون والمالي محمد كاتي كلها كانت خاطئة أفليس الأولى بالأمازيغ اليوم التحالف التام والانصهار مع العرب عوض مد اليد إلى أوروبا التي لن تلبث أن تقلب لهم ظهر المجنّ وتعود إلى سيرتها الأولى في عدائها الأزلي لكل ما هو جنوبي.

مساعي الغرب كما أشرنا في البداية تهدف إلى ضرب النسيج الاجتماعي وخلق أقليات من العدم، وتمهيد الطريق أمام المزيد من التقسيمات، ورهانها لا يقتصر على دعم دعاة الأمازيغية بل يتجاوزه إلى ضرب الإجماع المغاربي حول الدين الإسلامي، والسعي لدعم أو خلق أقلية مسيحية أو لا دينية، إما من خلال الجماعات التبشيرية التي تجوب طول البلاد وعرضها في شكل جمعيات ومنظمات خيرية أو من خلال تقديم كل أشكال الدعم المادي والمعنوي لأصحاب الخطاب اللاديني لنشر أفكارهم في المجتمع، وتعتبر اليوم منطقة القبائل أو مناطق الأمازيغ بصفة عامة مرتعاً للمبشرين ويتحدث مركز الديمقراطية وحقوق الإنسان والعمل الأميركي عن مئات الآلاف من المسيحيين في المغرب العربي معظمهم وُلدوا مسلمين، وهذا ما بات يفسر اليوم في تونس تحديداً تنامي الأصوات الداعية إلى المطالبة بعدم إخضاع المجتمع إلى القوانين المستندة إلى أحكام الشريعة الإسلامية، وإلغاء المواد الدستورية التي تنص على أن الإسلام هو دين الدولة، والمصدر الأساسي للتشريع فيها.

إن ما يحدث اليوم من حراك في الساحة التونسية مثلاً ليس فقط نتيجة الحرية التي بات ينعم بها معظم أصحاب الرأي في البلاد ولكن أيضا بسبب النشاط المتزايد للفرنسيين في الساحة التونسية ونجاحهم في السنوات والعقود الأخيرة في خلق أقليات دينية وإثنية تنمو في كل يوم أكثر فأكثر، حتى انتقلت أصواتهم من الهمس الخجول إلى الصراخ المدوي، وليس لنا أن نتصدى لهذه الحملات المسعورة إلا بالضرب بيد من حديد على أيادي المبشرين حفاظاً على النسيج الاجتماعي، وفتح ملف الأمازيغ وطرحه على الطاولة للنقاش، على أن لا يكون ذلك من أجل التشريع، بل من أجل التجاوز والمعالجة وتفويت الفرصة أمام الغرب المتربص، فحجة دعاة الأمازيغية واهية وارتباطهم الوثيق بفرنسا يزيد من وهن حجتهم.

وختاماً نذكر بموقف رئيس وزراء سوريا في أربعينات القرن الماضي المسيحي فارس الخوري الذي رد على ادعاءات الجنرال الفرنسي غورو بأن فرنسا جاءت لحماية المسيحيين في بلاد الشام بأن قصد الجامع الأموي، وصعد على المنبر قائلاً: إذا كانت فرنسا تدّعي أنها احتلت سورية لحمايتنا نحن المسيحيين من المسلمين، فأنا كمسيحي من هذا المنبر أشهد أن لا إله إلا الله.

ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هاف بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

تحميل المزيد