فقهاء الإنس والجان

أشهر قصة اليوم يتم تداولها في الصحافة المغربية وفي مواقع التواصل الاجتماعي هي علاقة الشيخ السلفي "محمد الفزازي" بفتاة من قرية نائية نواحي مدينة أسفي المغربية.

عربي بوست
تم النشر: 2017/10/25 الساعة 09:26 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2017/10/25 الساعة 09:26 بتوقيت غرينتش

أشهر قصة اليوم يتم تداولها في الصحافة المغربية وفي مواقع التواصل الاجتماعي هي علاقة الشيخ السلفي "محمد الفزازي" بفتاة من قرية نائية نواحي مدينة أسفي المغربية.

عشرات الفيديوهات ومئات التعليقات وآلاف الحوارات تلوك "فضيحة" بطلها شيخ يبلغ 69 من العمر، ومعتقل سابق على خلفية الإرهاب بتهمة دعم تنظيم القاعدة.

واقعة سلطت الأضواء الكاشفة على فئة من الناس حاولت حيازة جزء من الرأسمال الاجتماعي عبر المشيخة الدينية، وعبر تصدر منابر الخطب والإفتاء وعبر ادعاء إخراج الجن من البشر، الدافع الرئيسي الذي حرّك الشيخ الفيزازي -حسب زعمه- لكي ينقذ الشابة من الجن اليهودي الذي يسكنها بعد أن فشل كل الرقاة في تخليصها منه.

الواقعة رغم جعجعتها الفضائحية فإنها تلقي حجراً ضخماً في عمق التفكير حول مستقبل النهضة في العالم العربي والإسلامي، وفي إشكالية استمرار هيمنة "فهم خرافي للدين" على خطاب وممارسة فئة وقعت في شراك المظهر الديني الموظف لكسب مواقع اجتماعية أو عائد مادي؛ ليتجدد السؤال عن أي موقع يجب أن يحتله رجال الدين في المجتمع؟

لكي نقارب هذه الإشكالية لا بد من الاستئناس بالتجربة الأوروبية، فهناك شبه إجماع من لدن محقبي التاريخ الغربي الحديث على أن الحضارة الغربية الحديثة هي نتاج تراكم وتفاعل متشابك ومثمر بين المراحل التي عاشها المجتمع الأوروبي، فكل واحدة هيَّأت الظروف لما يعقبها.

نقطة الانطلاق كانت مع مرحلة عصر النهضة (حوالي ثلاثة قرون، من القرن الرابع عشر إلى القرن السابع عشر)، ثم عصر الحداثة (من القرن السابع عشر إلى القرن العشرين) الذي شهد ثورات اجتماعية وفكرية وصناعية وتجارية وعلمية ثم تقنية.

عوامل عدة حفزت الإنسان الأوروبي؛ لكي يغير واقعه المرير ويخرج نفسه من مستنقع التخلف الحضاري المسمى "عصر الانحطاط" وجوهر هذه العوامل كان ثقافياً، وبالأخص التصورات الثقافية التي تؤطر مسلكيات الناس والتي تتأسس على تصورات دينية مبنية على فهم متزمت للتعاليم المسيحية.

بعد ما تبين أن عشرة قرون من هيمنة الكنيسة ورجالها على حياة الناس وتصوراتهم وعلاقتهم بالله، ليست إلا سجناً كبيراً حراسه هم الأساقفة والباباوات، وأن هناك انعدام القيمة العلمية والعملية للتعاليم المسيحية، وبالتالي بات من الضروري المناداة بالإصلاح.

كانت المرة الأولى التي استُخْدِمَ فيها مصطلحُ "الإصلاح الديني" في القارة الأوروبية عندما بعث القس الألماني مارتن لوثر بخطاب إلى الدوق جورج مطالباً فيه بالإصلاح الديني بقوله: يجب القيام بإصلاحٍ ديني عامٍ للطبقات الروحية والزمنية.

وقد علَّق المؤرِّخُ البريطاني وول ديورانت على ذلك بقوله: وقد أضفت هذه الكلمة على ثورة لوثر اسمها التاريخي..

ويمكن حصر أسباب المناداة بهذا الإصلاح فيما يلي:
– إصدار الكنيسة لصكوك الغفران.
– موقف الكنيسة من العلم والعلماء وتقييدها للعقل.
– انحراف رجال الدّين ونسيانهم لدورهم الأخلاقي والدّيني.
– ابتداع الكنيسة لنظام "محاكم التفتيش".
– فرض الكنيسة للكتاب المقدَّس باللغة اللاتينية واحتكارها لفهمه وتفسيره.

كل الأسباب المذكورة أعلاه تبرز أن جوهر الإشكال كان هو انحراف المساكين بالتأويل الديني "بالدين نفسه" من خصوصية العلاقة التعبدية بين العبد وربه، إلى محاولة غلق المجتمع والسيطرة على المصائر الشخصية وتعطيل العقل والإرادة وتحويل الإنسان إلى شبح يعيش فوق الأرض بلا عقل فعال ولا روح خلاقة وإرادة أو حرية.

فكان النتاج الطبيعي لهذا الوضع قصة التحول التاريخي للمجتمع الأوروبي نحو العلمانية المتشددة واستبدال العلم بالدين وبقية القصة معروفة.

وما من شك أن السؤال الذي يجول في ذهن القارئ هو أية علاقة لنا، في سياقنا الثقافي والحضاري الخاص مع التجربة الأوروبية، فالإسلام دين بلا كنيسة ومجتمع بلا إقطاع.

بل إن الإسلام الحق المستنير يقوم على العقل والتفكير والحرية، ودليل هذا هو الحضارة العربية الإسلامية التي نقلت البشرية إلى قمة الإبداع البشري.

هذا صحيح، لكن هذا ينطبق على مرحلة ازدهار الحضارة الإسلامية التي انتهت عملياً مع سقوط غرناطة سنة 1492، ومن يومها وهذه الأمة -المجموعة البشرية- تنحدر في وادٍ سحيق من الجهل والتخلف، حتى إن مجهودات مائة سنة من عصر النهضة العربية تكاد تذهب أدراج الرياح.

في كل يوم يخرج إلى الناس شخص شبه أمي، يعتمر الزي التقليدي، يحفظ بعض السور من القرآن ويستظهر بعض المواعظ والأشرطة الدينية، ثم يخلل هذا بمجموعة من الأحاديث، والأفضل أن تكون الأربعين نووية، وأخرى صححها الألباني وصادق عليها ابن باز وباقي نجوم الإسلام السعودي.

هذه هي الوصفة السحرية التي تجعل شخصاً كان "نجاراً" أو "معلماً" أو "بائعاً متجولاً" يتحول إلى واعظ وداعية ينزل ضيفاً عزيزاً على العقائق والأعراس والمآتم.

إنها الموضة الجديدة التي تزدهر في مجتمع يعشق الشكليات ويعتقد في البركة وفي قوة الجن والسحر والعين الحق.

والغريب أن هناك أشخاصاً يحترفون مهنة تسمى "الطب الشرعي" بالرقية الشرعية على أساس أن القرآن شفاء للناس، دون أن يفكر الناس ولا الدولة في مسألة إمكانية الاتصال الحسي بين البشر والجن والقوى فوق الطبيعية.

فلو كان هذا الاتصال حقيقة حسية، لكان لزاماً أن يكون حالة كونية، في أوروبا كما في أميركا، في أستراليا كما في كندا.

لكن الملاحظ أن حضور هذا النمط في الاعتقاد متلازم مع تدني المعرفة العلمية العقلانية والتطور المادي الحضاري (المنطقة العربية – إفريقيا – آسيا).

نحن هنا، لا نحاول نفي وجود مخلوق اسمه الجن (لغوياً هو الشيء المتواري المحجوب)، فالقرآن يجزم بوجوده في غير ما موضع، لكن نود التنبيه إلى أن القرآن لم يقل بإمكانية الاتصال الحسي بين البشر والجن إلا في حالة "النبي سليمان"، ولم نعرف أن الرسول الأعظم محمد -عليه السلام- قد كان له اتصال بالجن.

حتى إنه في سورة الجن تؤكد عدم الإمكانية طبقاً للآية الكريمة: "قول أوحي إليَّ أنه استمع نفر من الجن.."، فلمَ هذا التشديد القرآني على أن معرفة الرسول بوجود الجن وسماعه للقرآن الذي هو المبعوث به كان عن طريق الوحي وليس شيئاً آخر وهو خير البشر وآخر المرسلين، فكيف لشخص غيره أن تكون له هذه الإمكانية؟!

ومن الناحية الأنثروبولجية فإن الكثير من التصورات التي نحملها حول الجن وحياته وأنواعه كانت قائمة قبل ظهور الإسلام في المعتقد الديني العربي القديم، فقد اعتقد العرب بوجود الجن والشياطين وبأنهم قوى مبهمة خفية شريرة وربطوا بين الجنون والجن وأنهم يسكنون القبور والمزابل والأماكن المهجورة، ولهم أصناف مختلفة كالعفريت والشيطان والغول والسعلاة وشق، وكانوا يقدمون لهم القرابين ويستجدون رضاهم ويعتقدون أن لهم أسماء وقبائل وعشائر على شاكلتهم.

وهذا تقريباً شبيه بما يعتقد عموم المسلمين اليوم، ومعناه أن الخطاطة التصورية الوثنية حول الجن تسربت إلى الثقافة الإسلامية وما زالت متحكمة إلى اليوم.

ملحوظة:

التدوينات المنشورة في مدونات هاف بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

تحميل المزيد