عندما بدأت ثورة الربيع العربي في بلاد تونس ومصر ومنها لليمن وسوريا، ظهرت عدة أصوات مضادة تحمل شكلاً من أشكال التعاطف مع تلك النظم الديكتاتورية التي ثارت ضدها الشعوب وقتها، معظم تلك الحملات كانت تتعاطف مع شخص الرئيس لا قضية الحرية والعدالة، وأشهرها كانت حملة أُطلقت في مصر تحت اسم (إحنا آسفين يا ريس)، وهي عبارة عن اعتذار من الشعب المصري للرئيس المخلوع على الثورة التي أقامها الشعب نفسه، ووصلت صفحات الحملة لقرابة المليوني إعجاب ومشاركة في فعاليات هذه الحملة، حملة (إحنا آسفين) أثارت استغراب الكثير من الشباب في ميدان التحرير والمحللين السياسيين الذين أرجع معظمهم تلك الحالة لمتلازمة (ستوكهولم) وهي الحالة التي أطلقت على حادثة السطو على مدينة ستوكهولم، قد اشتهرت في العام 1973؛ حيث تظهر فيها الرهينة أو الأسير التعاطف والانسجام والمشاعر الإيجابية تجاه الخاطف أو الآسر، تصل لدرجة الدفاع عنه والتضامن معه.
هذه المشاعر تعتبر بشكل عام غير منطقية ولا عقلانية في ضوء الخطر والمجازفة اللذين يتحملهما الضحية؛ إذ إنها تفهم بشكل خاطئ عدم الإساءة من قِبَل المعتدي إحساناً ورحمة.
وقد سجلت ملفات الشرطة وجود متلازمة ستوكهولم لدى 8% من حالات الرهائن في حادثة السطو هذه، متلازمة ستوكهولم وقتها كانت تصيب أعداداً كبيرة من الشعب التونسي والمصري، وما زالت تصيب بعضهم حتى الآن، فالحملة لم تقف حتى الآن على مواقع التواصل الاجتماعي.
وقتها كتبت مقالاً بعنوان الأبوية في السياسة العربية، وهي محاولة لفهم مصدر هذه التصرفات، وكان وصف الأبوية نسبة للفترات الطويلة التي حكمت فيها تلك الشخصيات شعوبها، فمبارك وبن علي وغيرهما حكموا لأكثر من عقدين، أي جيلين من البشر، ومنذ أن فتحوا أعينهم وجدوا هؤلاء رؤساء وصورهم تملأ الشوارع ووسائل الإعلام الرسمية، وعلى مدى السنوات تولدت علاقة غريبة سمّيتها بالأبوية، فالشباب يرى في هذا الشخص شخصية قريبة لهم تماثل علاقة التعلق بالأب والوالد العطوف، أو الشخص الذي تعودت عليه لسنوات وتحزن لفقده المفاجئ، ناهيك عن الاستبداد الدائم والانفراد بصفة القيادة ومحاولة تصوير القائد الدائم الأوحد تلك الصفات التي تشابه الـcerzerlism التي كانت منتشرة في فترات تاريخية مختلفة في عدة دول في العالم.
فكرة الأبوية (fatherhood) ليست متعلقة بالنظم الحاكمة في تلك البلاد فقط بل أيضاً بالأحزاب السياسية في كل العالم العربي والإفريقي، فالتركيبة التي تكونت بها الجماعات السياسية في تلك الدول هي أحداث إما عسكرية أو ثورية، فتتولد منها فكرة البطل الشجاع والقائد المخلص، كما حصل في تجربة الضباط الأحرار وأكتوبر – صدام في العراق، والأسد في سوريا، والنميري في السودان، والقذافي في ليبيا – أو دينية فترسخ لشخصية الإمام القائد الذي يجب أن يتبع تارةً ويسمى تارة المرشد في حالة الإخوان المسلمين المصريين والسودانيين، حسني مبارك نفس الديكتاتور كان بطل حرب وأتت به نفس المنظومة.
وفي ظل اختفاء مفهوم القائد في السنوات الماضية في العالم واستبداله بفكرة (الرئيس الخادم) الذي يقوم بخدمة الشعب بعيداً عن التبجيل والتعظيم المبالغ فيه، ما زالت القيصرية موجودة في كل عقول شعوب المنطقة التي ما زالت تنتظر المسيح، قيصر أو المهدي المنتظر، ببساطة هنا نسهل الأمور على أنفسنا كثيراً، نتبع الأشخاص فقط لا الأفكار، ونبعد عن أنفسنا رهق التفكير والبحث واتخاذ القرارات، نكلفه بفعل كل ذلك ليمهد لنا طريقاً سهلاً معبّداً، ببساطة هنا نبحث عن مهدي أو مخلص، نسميه تارة (أستاذ) وتارة يكون في هيئة (شيخ) أو (إمام ديني)، وغالباً في الأهم في بزّة العسكر القاتمة.
مخلصنا لن يأتي؟
إن لم نعرف أنه موجود هنا في عقلنا الجمعي، مخلصنا ستأتي به الحوجة والإرادة المشتركة لا التبعية العمياء، ستأتي به الفرق لا الأفراد، ستأتي به تبعية الأفكار ونقدها المستمر لا تبعية أصحاب الأفكار.
سيأتي وإن تأخَّر..
ـــــــــــــــــــــــــ
هوامش:
متلازمة ستوكولهم: ظاهرة نفسية تصيب الفرد عندما يتعاطف أو يتعاون مع عدوه أو من أساء إليه بشكل من الأشكال، أو يظهر بعض علامات الولاء له مثل أن يتعاطف المخطوف مع المُختَطِف.
الأبوية fatherlism: مصطلح من تأليف الكاتب يحاول به وصف علاقة عاطفية معينة.
القيصرية cezalism: كلمة تعود للكاتب الماركسي غرامشي يوصف بها تعظيم شخصيات سياسية ما.
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هاف بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.