الحكومة والحكم في المغرب.. سوء الفهم الكبير

فأصل المشكل الأساسي هو أننا في خضم مواجهة، الأطراف الحقيقية فيها ليست هي من تظهر للعموم، فالأمر أشبه بحرب باردة بين البنى والقوى الرئيسية المؤثرة داخل دواليب السلطة، هذه البنى تنصب أطرافاً في شكل أحزاب في العادة كواجهات إعلامية للتفاوض والدفاع عن أطروحتها

عربي بوست
تم النشر: 2017/03/23 الساعة 05:04 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2017/03/23 الساعة 05:04 بتوقيت غرينتش

حقيقة ما يحدث اليوم داخل الحقل السياسي هو أننا نعيش حالة خلاف حاد على السلطة، وليس خلافاً حول الحكومة، ربما قد يكون الأمر بأشكال وصور متفاوتة ومختلفة، لكن السبب الحقيقي هو أن هناك نزاعاً داخلياً داخل مختلف دوائر وقوى الدولة الرئيسية، وهناك صراع منصب بالذات على مَن سيكون الطرف الثاني بعد الملك في قيادة زمام الحكم وصنع القرارات المهمة للبلد، وكيف يجب تقسيم الأدوار حول ذلك.

فأصل المشكل الأساسي هو أننا في خضم مواجهة، الأطراف الحقيقية فيها ليست هي من تظهر للعموم، فالأمر أشبه بحرب باردة بين البنى والقوى الرئيسية المؤثرة داخل دواليب السلطة، هذه البنى تنصب أطرافاً في شكل أحزاب في العادة كواجهات إعلامية للتفاوض والدفاع عن أطروحتها، بينما تبقى هي من يصنع القرار الحقيقي ومن يتحكم في خيوط الصراع حول الخريطة، وباسمها يتفاوض على حدود وتصرف كل طرف داخل الرقعة التي تحدد له، ولمصالحها يتم عقد الصفقات عما يجوز لهذا وما لا يجوز لذاك، ووفق حساباتها يحدد ما سيكون لفئة وما للأخرى، الأمر بتعبير آخر هو بمثابة سايكس – بيكو بتأليف وتشخيص وإخراج مغربي.

لتوضيح أكثر للصورة، فيمكن الحديث عن أربعة تيارات وأجنحة داخل الدولة حالياً هي الأطراف الرئيسية للنزاع، ثلاثة من داخل بنية المخزن، وآخر من خارجه.

الجناح الأول ونعتقد أنه هو الأقوى والأكثر تغلغلاً داخل مختلف المؤسسات الحساسة والمؤثرة في الدولة، كما أنه يعد الأكثر شراسة في مواجهة أي شكل من أشكال التغيير أو خلخلة الوضع القائم والموروث عن فترة الاستقلال، هذا التيار له حساسية شديدة مع أي من القضايا المتعلقة بالديمقراطية والانفتاح السياسي أو أي شيء من هذا القبيل.

يمكن أن نعتبر هذا الطرف "بقايا وفلول نظام الحسن الثاني"، فهو الذي تمكن منذ الاستقلال من بناء منظومة اقتصادية اجتماعية وسياسية أمنية متغلغلة داخل المراكز الكبرى للدولة، بما يجعلها قادرة على توجيهها والتأثير في الأوضاع فيها أكثر من أي طرف آخر، فهي البنية الصلبة للحكم، بل إنه بفضل سلطة الأمر الواقع تلك حتمت على الملك محمد السادس التعايش معها وشراء شرها واحتواءها بمختلف الوسائل الممكنة.

فهذا الجناح هو نفسه الذي أقنع محمد السادس لوقف مسلسل الانفتاح السياسي خلال فترة حكمه، وهو الذي أقنع الملك بإجهاض تجربة التناوب، كما أن هذا الجناح هو مَن وقف بشدة لمنع تضمين أسماء جلادي فترة سنوات الرصاص في تقارير وجلسات الاستماع لهيئة الإنصاف والمصالحة، يمكن أن نطلق عليه ببساطة جناح ورثة الدولة المغربية الحديثة التي أنشأها الجنرال ليوطي خلال فترة الحماية، وبالمناسبة فهو الأشد دفاعاً اليوم عن مصالح فرنسا بالمغرب.

ومنطق هذا الجناح في الأزمة الحالية: هو أننا نحن من بنى المغرب وبفضلنا يتمتع البلد بالاستقرار في ظل منطقة متقلبة، وأنه لولانا لما مرت الفترة الانتقالية للحكم بشكل سلس؛ لذلك فلن نسمح بأي تجاهل لنا ولمصالحنا، وأن ما يسمى بالديمقراطية والانفتاح السياسي ما هي إلا أبواب للفوضى والتسيب الأمني، فالملك وحده كل شيء، ويجب أن يكون كذلك، ولا نظام يصلح مع هذا الشعب غير الملكية التنفيذية، فهي تؤمن بالمفهوم الكلاسيكي للسلطة، ولا تجد أي دور للمؤسسات المنتخبة إلا من خلال منطق الأوامر غير القابلة للنقاش، كما الأمر داخل المؤسسات الأمنية.

الجناح الثاني ضمن هذه التركيبة الرباعية فهو ذلك الجناح المخضرم ممن عايش السنوات الأخيرة من حياة عهد الحسن الثاني، إلا أنه صعد بشكل قوي إلى واجهة قيادة المؤسسات المؤثرة في البلد، مستفيداً بذلك من الفراغ الذي أحدثه كبار مَن تبقى من رجالات الحسن الثاني، سواء ممن أحيلوا على التقاعد أو مَن غادروا إلى دار البقاء، حيث لم يتبقَّ منهم اليوم إلا جنرال الدرك حسني بنسليمان، والمستشار الملكي أندري أزولاي كأقوى شخصيتين.

في المضمون وسلوكياً هو لا يختلف كثيراً عن الأول، لكن هذا الجناح يمكن أن نطلق عليه جناح "مخزن محمد السادس"، أو جناح "مخزن عصر العولمة"؛ حيث فيه تم تجديد وتحديث وسائل وأدوات الممارسات السلطوية، ومعه تمت إعادة هيكلة العديد من المؤسسات والقطاعات الهامة للدولة، بما جعل شخصيات مقربة من الملك الجديد هي مَن تتحكم في صنع قرار هذه المؤسسات (الهمة، الماجيدي، المنصوري، الخيام..)، بعد أن كسبت حربا ضروس ضد الجناح الأول.

أطراف هذا الجناح هي صاحبة الأغاني المعروفة لدى المغاربة "الاستثناء المغربي" و"العهد الجديد"، و"ملك الفقراء".. وهي صاحبة العديد من المشاريع التسويقية لعهد محمد السادس (مدونة الأسرة، هيئة الإنصاف والمصالحة، المبادرة الوطنية للتنمية البشرية.. إلخ)، كما أنها هي نفسها صاحبة مشروع "محاربة الإسلاميين"، بل إنها الوحيدة من يعرف ماذا وقع بالضبط ليلة السادس عشر من مايو/أيار 2003؟ وهي نفس الأطراف التي صنعت حزب الأصالة والمعاصرة في مختبراتها، وهي من أشعلت أحداث مخيم أكديم أيزيك، وهي نفسها من أقنعت حالياً أخنوش بأنه "زعيم سياسي"، كما أقنعت من قبله إلياس العماري أنه تشي جيفارا ضد الإسلاميين.

فمنطق هذا الجناح هو أننا عرابي العهد الجديد، والديمقراطية التي تأخذ أي طرف يهدد سلطتنا ومصالحنا لن نقبل بها حتى لو كان ذلك بشكل ديمقراطي (الجنرال حميدو العنيكيري كان قد صرح بالأمر علانية مع بداية صعوده والحماسة الزائدة لهذا التيار مع البداية الأولى له، وقد أدى ثمن ذلك باهظاً وتمت إحالته للتقاعد، في حالة نادرة لكبار رجالات الدولة)، وبالتالي فلن نسمح بأي طرف كان أو يقوض كل ما بنيناه في رمشة عين، ولن نسمح لأي شكل سياسي غير الذي أسسناه، والذي نعتبره كافياً لبلدنا.
الخلاصة أننا سنحمي مصالحنا بقوة حتى وإن كان ذلك على حساب البلد والمسار الديمقراطي فيه.

فهو جناح دفع إلى ملك يسود ولا يحكم، لكن ليس بواقع قوة الدستور كما طالب الشارع بذلك، لكن بواقع الشبكات الأخطبوطية النافذة في أجهزة الدولة والدائرة من حوله، والتي تحجب عنه الكثير من حقائق الأمور، وتسمح فقط بما لا يضر مصالحها للوصول إليه، بما يجعل تأثيرها عليه أكبر من أي طرف آخر.

الجناح الثالث ممن دفعت به رياح التغيير خلال ثورات الربيع العربي إلى الواجهة السياسية، أجهض كل مخططات هذه الفئة، بل الأكثر من ذلك جعل رأسها هو المطلوب الأول من قِبل المحتجين، مما أرغمها على التراجع للخلف فاسحة المجال لقوة من بنية مغايرة تماماً، بل ومن ألد أعدائها على الساحة سابقاً، وهو ما جعلها مجبرة لتحنو رأسها للعاصفة وتجعل الوافد الجديد -غير المرغوب- فيه يتولى تدبير المرحلة بأقل الأضرار الممكنة.

الصدفة وحدها جعلت التيار الجديد يدخل كعنصر صعب التجاوز في المعادلة، بل إنه في فترة من الفترات كان هو طرق النجاة الوحيد للفئتين السالفتين ولمصالحهما، ولولا قبول العدالة والتنمية كواجهة رئيسية للمحافظين بالصفقة لتغيرت الكثير من المعطيات بشكل جذري اليوم.

فحزب العدالة والتنمية عرف كيف ومِن أين تؤكل الكتف، وكان أكبر الرابحين من حراك الشارع، ناهجاً بذلك سياسة براغماتية مكَّنته من تبوؤ المرتبة الأولى لمختلف العمليات الانتخابية لحد الآن، عناصر قوة الإسلاميين هي في امتدادهم الاجتماعي وتغلغلهم داخل الأوساط الفقيرة والمتوسطة، خاصة ممن عانت من سياسة التهميش وفساد الفئتين الأولتين؛ بل إن الأطراف الأولى كانت أكبر داعم لها من حيث لا تدري، حيث استفاد الحزب وحركته كثيراً في مرحلة ما قبل 2011 من سياسة التضييق وشبه الحظر الذي فرض عليه، مما جعلها -خاصة حركته- تمارس نشاطاتها في النطاقات التي يضعف فيها تأثير الدولة، وهو الشيء الذي جعلها شيئاً فشيئاً تحل محل الأخيرة في كثير من الجوانب، كما لا ننسى أن القدرة التنظيمية الرهيبة للحزب، والديمقراطية الداخلية الاستثنائية التي تجعل منه حزباً استثنائياً في هذه النقطة، حتَّمت على الأطراف الأخرى النزول للتفاوض معه على الطاولة.

منطق هذا الجناح في العملية التفاوضية، هو أننا مَن صوَّت عليه الشعب ونتفاوض معكم باسمه، وأنه بفضلنا لم يذهب البلد إلى المجهول في وقت كان يمكن فيه ذلك، كما أنه لولا كفّنا عليكم شرَّ الشارع لكانت مصالحكم مهددة كلها، ولكنتم في خبر كان؛ لذلك بفضل رفضنا للخروج للشارع وبفضل سياستنا ما زلتم في أماكنكم اليوم، وبنبرة لا تخلو من تصعيد وتهديد إذا لم تريدونا معكم اليوم وبالسلطة التي منحها لنا الشعب، فسنؤلّب الشارع مرة أخرى ضدكم، وعليكم تحمل مسؤولية التبعات بعد ذلك.

الجناح الرابع المكمل للتركيبة هو القصر، يعتبر بمثابة ضابط الإيقاع وقائد الأوركسترا بين الأجنحة السابقة، الأخير له حساباته الخاصة وتقديره للأمور يتم بناء على مصالحه هو الآخر، هو بمثابة حليف للجميع وخصم في الآن ذاته، يثق في الكل ولا يثق في أحد، القصر حالة خاصة، فهو الشيء الذي يجمع الجميع ويفرقهم في الآن نفسه، لدرجة أن المهتم يجد نفسه أمام حالة متفردة، فكل طرف يجد نفسه الأقرب فكرياً وأيديولوجياً منه، والعكس صحيح.

فالقصر يتعامل مع المعطيات هو الآخر بمنطق براغماتي محض، قوته مستمدة في شبه الإجماع الشعبي حوله كشكل سياسي لا بد منه في البلد (مع الاختلاف عن مضمون ذلك)، كما أن له قدرة ومهارة فائقة على التكيف مع كل الأوضاع والأحوال، فهو ديمقراطي أكثر من أي طرف حينما يكون ذلك مناسباً، وسلطوي أكثر من أي طرف حينما يتطلب الأمر ذلك، حداثي إلى أبعد الحدود، وتقليدي إلى أبعدها إذا كانت الحالة تتطلب ذلك.

منطقه في الأزمة الحالية، أنا ملك البلاد وأنا الإجماع وأنا حَكم فقط (بفتح الحاء)، لا أتدخل في خلافات التيارات والأحزاب السياسية فكلهم ملكيون، حتى أصدقائي لا يجب أن أنحاز إليهم، فأنا يجب أن أبقى على مسافة من الجميع، والأهم من كل هذا، على كل الأطراف أن تعي وتعترف أني الضامن الحقيقي والوحيد للاستقرار، وبدون سلطتي لا يمكن للبلد أن يسير للأمام، وإذا كان يجب أن أتدخل فيجب على الجميع الرضوخ لحكمي، ولا يجب أن يبقى قابلاً للنقاش.

هي هكذا خريطة الأزمة الحالية، ومن هذا وذاك إذاً فما ستحمله الأيام القليلة المقبلة من تطورات وقرارات في المغرب، سيحسم بشكل كبير إذا كان سيغلق قوس عملية الشروع في الإصلاح التي بدأها البلد منذ 2011 من عدمه، فنحن أمام حرب غير معلنة طرفاها تيار يسعى جاهداً بما أوتي من قوة للإبقاء على ذلك البصيص الصغير من أمل الإصلاح، ومن الجهة المقابلة نجد أطرافاً مدفوعة من جهات داخل السلطة تدفع بشدة نحو إغلاق "ضرس الديمقراطية" ذاك المؤلم لها والمفتوح أصلاً رغماً عن إرادتها، وذلك بأي شكل من الأشكال ومهما تكن النتائج والتبعات.

وبين هؤلاء وأولئك يبقى قرار الملك الحكم هو الحاسم، فإما أن يختار مغرب ما بعد 2011، وإما سيعود لما بعد 1999، وكلا القرارين يتطلب حكمة وتروياً كبيرين، والأكثر من ذلك الشجاعة في اتخاذ أحدهما وتحمل مسؤولية ذلك.

ملحوظة:

التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

تحميل المزيد