بعد أكثر من ست سنواتٍ من عُمر الثورة السورية، تقف الثورةُ الفتيّة على مفترق طرقٍ، تواجه من خلاله تحديّات جسام تبدو كأنها تفوقُ قدراتِها، ولكنّ قراءة أحداث الثورة على أمد السنوات الست ونيّف تؤكد أنها لطالما تجاوزت عقبات قاسية، ومرّت بمحطات صعبة، ما يقدم لنا اليوم إشاراتٍ على أن أمام الثورةِ نافذة فرصٍ تطلّ على مستقبلٍ حافلٍ بالتطورات التي تفرض على الثورة أن تتهيأ لتحمّل أعباء القادم، على الرغم من أنها مرت بتطورات ومنعطفات خطيرة وحُمّلت في مسيرتها الطويلة الكثير من الأفكار والأفكار المضادة، والتي شوشت على الثوار أو رسمت لهم مسارات متناقضة عدة، بعد أن اتفقنا منذ البداية على مسار واضح محدد المعالم ومبادئ ثابتة لا تنازل عنها.
فكان من الطبيعي جداً أن تتخذ الثورة مسارات عدة؛ منها ما هو صادق النية ولكنه طائش اكتفى بشعارات عاطفية رنانة، ومنها المخادع المضلل، ومنها المسار الصحيح الذي يحقق النصر الحقيقي للثورة والذي إلى الآن لم يلقَ دعماً كافياً؛ بل يتم تغييبه وتهميشه والمؤامرة عليه، لهذا كنا نرى في مسار الثورة حالات من المد والجزر؛ فتأتي أوقات يشعر فيها الناس بأن النصر قريب؛ بل قاب قوسين أو أدنى، وتأتي أوقات أخرى يسلّم فيها الناس بهزيمة الثورة.
فالمتتبع لما ينشره فرسان التواصل الاجتماعي على صفحاتهم وحساباتهم التي تجاوزت عدد الثوار في العالم، ومن يقرأ تحليلاتهم سيخلص حتماً إلى نتيجة واحدة، وهي أن الثورة قد انتهت أو في طريقها إلى الانتهاء، وأن النظام قد كسب الجولة، إضافة إلى الدور القذر الذي تمارسه بعض الفضائيات وبعض البرامج التي تستضيف مؤيدي النظام القمعي، إلى جانب ما تتعرض له بعض فصائل الثورة من التشويه على خلفية أيديولوجيتها الإسلامية والتي أصبح الإعلام المعادي للثورة يصورها شيطاناً يهددُ ليسَ فقط سوريا، وإنما يهدد أمن العالم.
وكذلك المواقف المائعة للدول التي وعدت بمساعدة الثوار ثم تعود لإعلان انسحابها من وعودها بحجج واهية؛ وذلك حتى تملأ نفوس الثوار بالإحباط وتدفعهم إلى التخلي عن الثورة، وإضافة إلى ضعف إعلام الثورة، الذي يعتمد على الهواة والناشطين الذين لا يمتلكون ثقافة إعلامية تؤهلهم للعمل الإعلامي.
ثم لا بد لنا أن نذكر فشل الأطر التي صنعتها المعارضة الخارجية، ومئات التجمعات والأشكال التي تتمحور كلها حول استغلال الثورة لمآرب ضيقة، وتحقيق مكاسب سياسية تخدم أفرداً أو أيديولوجيات غريبة، أو تنفذ أجندات خارجية ارتبطت بها طائعةً أو مجبَرةً.
أما الآن وفي ظل التطورات السياسية والميدانية، والمحاولات الحثيثة من دول العالم أجمع للقضاء على الثورة، في خطوات متسارعة من شأنها أن ترسخ الهزيمة النفسية في القلوب وتبثّ اليأس والقنوط وتقتل كل أمل وتفاؤل في قلوب الثوار أو من راودته نفسه بالتحرر والاستقلال، خطوات كان آخرها "وقف برنامج دعم المعارضة السورية المعتدلة"، سبقتها مواقف في السياق نفسه ومحاولات دولية لإنعاش النظام السوري وتعويمه على جميع المستويات.
ولا ننس الغربة التي بات يعيشها الثائر الصادق في ثورته وتصدّر الانتهازيين وأمراء الحروب للمشهد السياسي والعسكري.
إن هذا وغيره يرخي بظلاله الثقيلة، ضارباً شعوراً عميقاً باليأس والإحباط في قلوب الناس فيسألون سؤالاً: هل ستنتصر الثورة السورية؟! هل ما نراه من تهجير وقتل وتدمير وخراب وانتصار عسكري للنظام وفصائل حادت عن الطريق وضيّعت البوصلة، مؤشر على نهاية الثورة؟!
نقول لمن تسللت إلى نفسه الهزيمة واليأس حتى اختلطت عليه المسائل: إن النصر له معيارٌ أساسي، هو تحقيق الهدف أو الغاية التي تعمل الجماعة للوصول إليها؛ فمثلاً عندما نعلم أن المجتمع الدولي أراد من الشعب السوري أن يتخلى عن ثورته وقضيته ويصالح النظام المجرم ويرجعه لحضن العبودية، وعندما نعلم أنهم لم يستطيعوا طمس ثورتنا وهويتنا وقضيتنا العادلة، فنقول: إن هؤلاء قد انهزموا في المعركة؛ معركة المبادئ، معركة الحق مع الباطل.
ولكن في الوقت نفسه، استطاعوا أن ينتصروا في معركة أخرى، هي المعركة العسكرية ونهب الثروات وسلب مقدرات الشعب المكلوم، وذلك عن طريق الاحتلال المباشر تارة، والاحتلال غير المباشر عن طريق أزلامهم العملاء الرويبضات الذين فعلوا في أبناء جلدتهم ما يخجل المحتل أن يفعله، وهكذا معيار النصر والهزيمة.
وإذا ما تحدثنا عن السبب الرئيس لضعف الثورة والثغر العظيم الذي دخل منه أعداؤها واستطاعوا من خلاله ضربها ضربات موجعة- فإننا نتحدثُ عن الثغر الذي لطالما عمل الصادقون على سدّه وتنبيه الثورة والثوار من خطره، وتقديم الخطط الواعية والدعم الصادق لتحصين الثورة من الانحراف، وسدّ هذا الثغر كي لا تؤتى الثورة منه، ألا وهو غياب الرؤية والمشروع السياسي الواضح الذي يحقق النصر؛ ومن ثم غياب القيادة السياسية التي تقود الثورة من بحر الهزيمة إلى شاطئ الانتصار، وتحصِّنها من أي انحراف أو اختراق، وتمنع انزلاقها في أنفاق مظلمة (كان أولها نفق الارتهان وآخرها نفق المصالحة).
وفي المقابل أيضاً، لا بد أن نذكر السبب الرئيس لقوة الثورة، فنقطة القوة التي استدعت أمم الأرض وشياطين الإنس وأشرار العالم لاتخاذ قرارهم بالقضاء على الثورة ووأدها منذ اليوم الأول؛ هو يقينهم بأن الثورة السورية لها مستقبل سيكون انعطافاً تاريخياً يضع نهايةً وحدّاً لنظام مستبد ظالم مجرم، ويزيل -بلا شك- بنيانهم الهزيل وانتفاش الباطل في المنطقة ككل.
إن نقطة القوة هذه هي أنه ما زال بيننا الصادقون المخلصون، المتمسكون بمبادئ الثورة وثوابتها ورفضهم الاستسلام والخنوع والخضوع، رغم ما يعتريهم من ضغوطات وتهديدات ومضايقات، ورغم ما يخالج صمودهم وثباتهم من تشويش وخلط وإبهام، فتمسُّك أبناء الثورة بقضيتهم هو وحده البديل الحضاري للمنطقة ككل بعد سقوط الأسد ونظامه، إن هذا التمسك العجيب بالثورة السورية هو السبب الرئيس لصمود الثورة وتصدّرها صف أهل الحق في المعركة الأزلية بين الحق والباطل، فشعر أهل الباطل جميعاً بأنهم معنيّون في هذه المعركة.
وفي ضوء هذا، نجيب عن السؤال المطروح فنقول: إن الثورة السورية طرأ عليها نصرٌ وهزيمة؛ أما الهزيمة فكانت في معارك عسكرية جُرّت إليها الثورة واضطرت إليها بفعل فاعل، وكان من يسمون أنفسهم أصدقاء الشعب السوري قد وعدوا الثوار بالدعم والسند للمواجهة العسكرية وما وعدوهم إلا غروراً، ولفراغ الثغر الذي ذكرناه سابقاً مع غياب الوعي السياسي وقعت القوة العسكرية للثورة في فخ الارتهان، ومن ثم المصالحة، مما سبب الهزائم العسكرية تلو الهزائم، ولأن الفصائل حاولت تحويل الثورة من ثورة شعب إلى ثورة فصائل ظن الناس أن النظام انتصر وأن الثورة انتهت والسلام!
ولكن الحقيقة أن النظام لم يصل إلى هدفه وغايته، حتى بعد استرجاع المناطق عسكرياً؛ فالهدف الحقيقي ليس هدفاً عسكرياً؛ ومن ثم لا نستطيع أن نقول إن النظام انتصر؛ فغاية النظام ومِن خلفه المجتمع الدولي هي عودة الشعب السوري إلى حظيرة العبودية وتمكين الخوف واليأس في قلوب الشعب السوري وإجباره على التبرؤ من ثورته وقضيته، وخصوصاً بعد أن أذاقوه تجارب سوداء عبر مناهج مُعلّبة أرادت تشويه الثورة والثوار في قلوب الناس وعقولهم، ولكن ما جرى ينبئ بهزيمة نكراء لأهل الباطل مجتمعين.
أما نحن أيها السوريون الصابرون المرابطون، فاعلموا أننا حرقنا المراكب وليس لنا عودة عن هذا الطريق إلا إلى الجحيم والعذاب الأليم، فكما يقال: "أنصاف الثورات مقابر الشعوب"، فعلينا بسد الثغر وتدارك الأمر، فما زال في هذه الثورة رجال صادقون مخلصون، ومنهم الكثير، فلا بد أن نسد هذا الثغر بتعيين قيادة سياسية مؤمنة بالثورة وأهدافها وثوابتها تحمل مشروعاً سياسياً واضحاً، فنستنزل بذلك النصر فنكون أحق به.
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هاف بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.