تطرح ظاهرة التغيّرات المناخية إشكالية بيئية كبيرة لم يعُد ممكناً التنكر لها أو تجاهل أثرها؛ إذ تغير المفهوم الذي ينظر إلى تغيّر المناخ على أنه قضية بيئية أو علمية فقط، وأصبح الآن يعتبر قضية أمن قومي وعالمي.
إنه الآن قضية تهم العالم أجمع، الأمر الذي فرض على مختلف بلدان العالم دون استثناء أن تأخذها بعين الاعتبار وهي تضع سياساتها الطاقية والاقتصادية والبيئية والاجتماعية والثقافية.
فكل دول العالم أصبحت اليوم معنية بشكل مباشر بإيجاد حل طويل الأمد لمعالجة إشكالية التغيّر المناخي، خاصة أنه تبين من خلال مختلف الدراسات العلمية أن متوسط درجة حرارة الكرة الأرضية قد يرتفع بمقدار أربع درجات مئوية إذا لم تكن هناك تخفيضات في انبعاثات الغازات التي تسهم في آثار الدفينة الحابسة للحرارة.
منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا لن تكون استثناء ضمن هذا التهديد، بل إنها تعد من أكثر المناطق تأثراً بالتغيرات المناخية؛ إذ شهدت ارتفاعاً شديداً في درجات الحرارة في العقود الماضية، وستواجه ارتفاعاً غير مسبوق للحرارة مستقبلاً، مما يزيد من انتشار ظاهرتي الجفاف والتصحر اللتين تعاني منهما معظم الدول العربية تقريباً، ومن المتوقع أن تزيد درجات الحرارة في فصل الصيف ثماني درجات مئوية في أجزاء من الجزائر والمملكة العربية السعودية والعراق بنهاية القرن الحالي على سبيل المثال.
فحسب أحد التقارير السنوية للمنتدى العربي للبيئة والتنمية تبين أن الدول العربية سوف تتأثر بشكل متفاوت بتداعيات التغير المناخي.
والدول العربية التي تقع على سواحل البحار والمحيطات هي الأكثر تأثراً بتداعيات التغير المناخي، فحوالي 12% من الأراضي الزراعية في دلتا النيل في مصر هي في خطر من ارتفاع مستويات البحار متراً واحداً، وتزداد هذه النسبة إلى 25% مقابل ارتفاع مستويات البحار 3 أمتار.
وفي لبنان بدأت مساحات الغابات بالتقلص من 36% إلى أقل من 14% من إجمالي مساحة البلاد.
وفي الأردن تتفاقم مشكلة مياه الشرب بسبب نقص الأمطار، مما يضع المملكة ضمن أفقر الدول مائياً عالمياً.
كما أن العاصمة الموريتانية نواكشوط مهددة بالغرق من مياه المحيط وبالتصحّر المتزايد، أما في اليمن فقد تقلصت مساحة الرعي بسبب زحف البحر وزيادة ملوحة التربة.
كل هذا يجعل من بلدان وحكومات المنطقة المعنية الأولى والأكثر حاجة للبحث عن حلول جذرية لمواجهة هذه الظاهرة والحد منها، كما أنها الأكثر حاجةً للبحث وتشجيع أي توجه إقليمي أو عالمي يروم الرفع من حجم المشاريع الخضراء والمشاريع غير ملوثة للبيئة والبحث عن تمويلات واستثمارات في هذا المجال.
وإذا ما أخذنا بعين الاعتبار أن حجم الاستثمار العالمي السنوي في العام 2015 في مجال الطاقة المتجددة بلغ 266 مليار دولار أميركي، وهو يفوق ضعف ما تم استثماره في محطات الكهرباء العاملة على الفحم والغاز، والتي بلغت 130 مليار دولار، على الرغم من انخفاض أسعار الوقود الأحفوري؛ حيث بلغت قيمة الاستثمارات في الطاقة المتجددة منذ العام 2004 حوالي 2.3 تريليون دولار، فهذا يفتح مجالاً وآفاقاً اقتصادية واعدة وكبيرة لاقتصاديات المنطقة.
وبما أن منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا هي المستحوذة على الجزء الأكبر من حجم الطلب الجديد على الطاقة المتجددة في المستقبل فهذا يجعل منها محط اهتمام متزايد في هذا المجال، وفي هذا الصدد فبإمكان دول وحكومات المنطقة الاستثمار والرهان مستقبلاً على وتمويل مشاريع الطاقات المتجددة، وذلك عبر التركيز على بعض الحلول والتدابير التي من الممكن أن تساهم على هذا الأمر، ومنها:
1- التعويل على بنوك التنمية بالمنطقة:
بإمكان مختلف بنوك التنمية الموجودة بالمنطقة العربية أو حتى خارجها أن تلعب دوراً كبيراً وحاسماً في تمويل المشاريع التي تعود بالفائدة على التنمية والبيئة.
حيث يمكن في هذا الإطار تعزيز نماذج التنمية التقليدية المستخدمة في تمويل مشاريع البنية التحتية الكبيرة لتسريع عجلة اعتماد تقنيات الطاقة المتجددة وتوسيع نطاق انتشارها وتكرار التجارب الناجحة في بلدان مختلفة.
إذ يمكن أن تلعب بنوك التنمية دوراً مهماً في تصميم الأدوات المالية التي تسمح للمستثمرين من القطاع الخاص بالمساهمة في مكافحة تغير المناخ.
ولكن التحدي الذي يواجه التمويل اليوم لم يعد يقتصر على الكم، فبرغم أن المصادر المحتملة لتمويل مشاريع التنمية الرحيمة بالبيئة تشمل الآن صناديق التقاعد وشركات التأمين والمؤسسات وصناديق الثروة السيادية، فإن الأمر المفقود في كثير من الأحيان هو الآليات الكفيلة بضمان توجيه الاستثمارات إلى مشاريع مستهدفة بعناية وتتسم بالفاعلية.
2- السندات الخضراء أو "سندات "المناخ":
هي أحد الحلول التي يعول عليها كثيراً لتمويل العديد من المشاريع الخضراء في العالم؛ حيث تتسم السندات الخضراء بالدخل الثابت، وبكونها أدوات مالية يسهل تسييلها، كما يقتصر تخصيص الأموال التي تدرها على مشاريع التخفيف من آثار تغير المناخ والتكيف معه هذه الآلية تتمتع بكل خصائص السندات التقليدية، ولكنها مدعومة بالاستثمارات التي تساهم في التنمية المستدامة أو مكافحة تغير المناخ.
إذ تعد السندات الخضراء آلية فاعلة يمكن أن تلعب دوراً كبيراً في جهود مكافحة الظاهرة.
كما أن الدول العربية بإمكانها الاستفادة من التجارب العالمية في هذا المجال، ومنها البنك الدولي، وولاية ماساتشوستس الأميركية، ومنطقة إيل دو فرانس الفرنسية، ممن تصدر هذا النوع من السندات.
ومما يزيد من ارتفاع أسهم هذه الآلية مستقبلاً هو تعهد صناعة التأمين بمضاعفة استثماراتها الخضراء إلى 84 مليار دولار أميركي بحلول نهاية عام 2015. كما توقع بعض الخبراء ضخ مبلغ 100 بليون دولار من هذه السندات في الأسواق المالية حول العالم، ولا يستبعدون أن تتجاوز القيمة الإجمالية لإصدارات هذه السندات حول العالم 220 بليون دولار عام 2020، وإلى جانب المستثمرين الدوليين، يستعد المدخرون من الطبقات الوسطى لشراء السندات الخضراء التي باتت تستقطبهم.
وبالفعل فهناك العديد من البلدان العربية ممن ذهبت في هذا الاتجاه، ففي المغرب أصدر البنك الشعبي وهو أحد البنوك الخاصة سندات خضراء بقيمة 135 مليون يورو، وهو الأول من نوعه في القطاع البنكي بإفريقيا، وهو كما جاء على لسان مدير البنك خطوة تروم الرفع من تمويل مشاريع الطاقة المتجددة الساعية لخفض انبعاثات الغاز.
في اليمن كذلك فقد جمعت سندات حماية الغابات التي استمر العمل عليها ثلاثة أعوام 152 مليون دولار من مؤسسات استثمارية مثل صناديق معاشات التقاعد بهدف مكافحة التصحر.
الأمر نفسه أيضاً في منطقة الخليج فقد أصدر بنك أبوظبي الوطني أول سندات خضراء من منطقة الخليج ليجمع 587 مليون دولار لتمويل مشاريع مكافحة تغير المناخ؛ إذ سعى هذا البنك إلى لعب دور ريادي في بناء مستقبل الطاقة، حيث قام العام الماضي بتشكيل فريق متخصص في الأعمال المستدامة، كما أصبح البنك الأول في المنطقة الذي يوقّع على اتفاقية "مبادئ خط الاستواء".
كما أن السندات الخضراء أصبحت ضمن خطط البورصة المصرية المستقبلية للبدء في إصدارها، باعتبارها من الأدوات المالية الهامة التي تحظى باهتمام المستثمرين في العالم في الفترات الأخيرة؛ إذ إلى جانب كونها تساعد على تنمية المجتمع وحماية البيئة، ٍ فهي كذلك تساعد على جذب استثمارات أكثر، وفي نفس الوقت ستساهم بوضع البلد على خريطة الاستثمار الأخضر.
3- الفرص الاقتصادية الهائلة للدول:
الآفاق المستقبلية الواعدة للاقتصاد الأخضر يجعل منه أحد أكبر الفرص الاستثمارية المغرية للخواص وللحكومات؛ حيث يمكن للاستثمار في الطاقة المتجددة أن يفتح آفاقاً جديدة للتعاون بين الحكومات والمؤسسات المالية الخاصة، فالأخيرة يمكن أن تلعب دوراً ريادياً يغني الحكومات كاهل التكاليف الحالية المكلفة نسبياً.
فنظراً للفجوة الكبيرة بين الطلب على الطاقة وإنتاجها في المنطقة، سيشهد الطلب على تمويل مشاريع الطاقة المتجددة نمواً متسارعاً خلال الأعوام المقبلة، فمن المتوقع أن تساهم مصادر الطاقة المتجددة في زيادة إجمالي قدرات توليد الطاقة الكهربائية بنسبة كبيرة مستقبلاً، كما أن الاستثمارات الخاصة بتقنيات الطاقة المتجددة أكثر من نصف إجمالي الاستثمارات في المشاريع توليد الكهرباء الجديدة في العالم، ويُعزى ذلك إلى الاستمرار المتزايد في انخفاض أسعار تقنيات الإنتاج، وازدياد الطلب من الدول النامية، إلى جانب تزايد الاهتمام من الحكومات لخفض الانبعاثات الكربونية من خلال توسيع نطاق الاعتماد على مصادر الطاقة النظيفة.
هذا الأمر يتيح فرصاً هائلة لاقتصاديات المنطقة، وبما يمكنها للاستغناء عن الأساليب التقليدية لتطوير أنظمة الطاقة والانتقال فوراً إلى الاعتماد على تقنيات متطورة وأنظمة لا مركزية أفضل أداء وأقل تكلفة، إلى جانب تطوير حلول تمويل أكثر ابتكاراً لتلبية المتطلبات المالية اللازمة لتحقيق ذلك.
فالتقنيات الجديدة أثبتت فاعليتها الكبيرة وبتكلفة معقولة مما يجعلها تعود بالخير على المستهلك وعلى الحكومات والمستثمرين كذلك، من خلال دورها المتوقع في تحقيق التوازن الاقتصادي وزيادة إمدادات الطاقة، ودفع عجلة التنمية المستدامة، ودعم جهود التنمية الاجتماعية.
لكن رغم كل ما سبق فهناك حاجة ماسة إلى إجراءات أكبر وأكثر جدية من أجل أن نتفادى الآثار الخطيرة لتغير المناخ.
إن التعامل مع قضية تغير المناخ بكفاءة، يستلزم أن نراها كجزء هام من مجهودات الأنظمة والشعوب لتحقيق التنمية المستدامة.
ويجب على الدول الغنية أن تحمل مسؤولية أكبر في هذا الشأن؛ نظراً لسهولة حصولها على مصادر طبيعية ثمينة.
كذلك فإنه من الضروري أن يكون العالم أكثر مساواة، الأمر الذي سيصب في مصلحة كل إنسان، الغني والفقير، وأهل الشمال وأهل الجنوب.
وإذا لم يتحقق ذلك فإن الآثار السلبية للتغيرات المناخية التي لا يمكن أن تعكس اتجاهاً سوف تضرب كل إنسان على وجه الأرض.
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هاف بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.