"خطرَ في بالي.. يخطرُ.. أخطر.. لم أرَ مرةً جملةً تحملُ صيغةَ الأمر للفعلِ الماضي خطرَ، فالخواطرُ لا تأتي بالأوامرِ ولا تذعنُ لطلباتِ الإحضار، هي كالمعشوقةِ المغناجِ، تبالغُ في دلالها كلما اقتربَ منها من يهواها، تقصيهِ كلما طلبَ الوصل، وتدنيهِ كلما رأتْ منه كبرياء يمنعه، تحضرُ متى أرادتْ وتطلقُ العنانَ لثورتها بالقوةِ التي تريد، محيلةَ القلبَ والخيالَ لبقايا حبرٍ على ورقٍ تقتاتُ عليها قلوبُ المكلومينَ والسعداء".
هكذا دوّن خالد كلماته الأولى التي أراد من خلالها أن يكتشف قدرته على التعبير، ويستكشف فيما إذا كان قادراً يوماً ما على إيصال أفكاره التي يودّ إسماعها للعالم كله، كان ذلك عندما كان يبدأ سنته الدراسية التي ستنقله من طالب مدرسي إلى جامعيّ، مما دفعه وفقاً لقاعدة الأولويات التقليدية إلى أن يصبّ تركيزه على دراسته ويؤجل فكرة اختبار موهبته في الكتابة.
مرت عدة سنوات ليصبح خالد طالباً في السنة الثالثة في كلية الهندسة التي أهّله مجموعه لها دون أن يبدي لها حباً أو رغبة، كان كل شيء يمر بشكل روتيني.. يلتحق بمحاضراته، يدرس، ينجح وتنتهي القصة، لم يشعر بأنه قادر على إعطاء ذلك المجال أكثر من ذلك.
ولأن الأقدار دوماً تحمل لنا كثيراً من تغييرات لم نتوقعها يوماً، فمع بداية عام 2011 الذي ساق للعالم أجمع أحداثاً بدأت ولم تنتهِ حتى هذه اللحظة، عكف خالد على اكتشاف نفسه ومَن وما حوله من جديد، يجلس ساعات طويلة أمام نشرة أخبار تلو الأخرى، يتابع الدمار في كل مكان ثم يرى الأمل يخرج من بين الأنقاض.
كشابٍ عربي ورغم أنّه ينتمي لبلد مستقرٍ لم يشعره ذلك أنه خارج دائرة الحدث، ففي كل مجزرة ودماء وانتصار كان يحسّ بنفسه واحداً من أبناء ذلك الشعب، تارة يكون مصرياً وأخرى سورياً أو عراقياً أو يمنياً أو غيرهم، لم يعترف مرة باختلاف اللهجات والعادات، ولم يعتبرها عائقاً أمام شعوره بالانتماء لأي بلد.
مع ارتفاع وتيرة وسرعة الأحداث في العالم العربي بدأ خالد بطرح الكثير من الأسئلة على نفسه، والبحث عن أجوبتها في كتب التاريخ والسياسة وعلوم الاجتماع والوثائقيات لمعرفة ما يحدث، وليقارن ما يحصل اليوم بالأمس، وليحاول إسقاط بعض مواقف التاريخ بإيجابياتها وسلبياتها على مواقف اليوم، إلى أن وصل في النهاية إلى قناعة بأن التاريخ يشبه العجلة دائمة الدوران، يعيد نفسه بالطريقة نفسها مع اختلاف تطور المجتمعات من زمن لآخر.
تمر سنوات من الصراعات والتغييرات في العالم، ليلاحظ خالد أنه يختلي بنفسه كثيراً، تارة ليحاول توثيق بعض الأحداث، وأخرى لتدوين بعض الاستنتاجات التي يحتفظ بها لنفسه، كان يكتبها بعشوائية لتكون مرجعاً له وحده، إلى أن أتى اليوم الذي طاف به خلده بالأفكار والمشاعر التي تمنعه دموعه من ترجمتها شفهياً، فلجأ لقلم الرصاص الذي طالما أحب أن يكتب به مع عدة أوراق بغرض البوح إليها دوناً عن كل البشر، كان في كل ليلة يعدّ لقاءً بالغ الرومانسية مع حروفه وأوراقه ووجبة من الكافيين الذي يساعده على إطالة يقظته.
يأتي في المساء؛ حيث يرى أنه الوقت الأنسب ليستأنس كل امرئ فيه بنفسه أو مع من يحب، وهو وحده لكنّه يحب الورق، ينتشي عندما تنساب الكلمات من قلمه، ثم ها هو ضغط الأيام العصيبة ومتابعة التجارب واختبار كل المشاعر يؤكد له أن موهبته في الكتابة قائمة، ذلك لم يكن غروراً، ولكن كان سعادة بما ناله من إمكانية إطلاق خطراته أمام نفسه، ثم اختبار الجرأة في اطلاع الناس عليها.
انطلق خالد في رحلته التي يمكنك تسميتها بالتوثيقية ليرى كل أنواع الناس ليلازمهم ويعرفهم عن قرب، كان متواضعاً ولطيفاً للدرجة التي تسمح للجميع بتقريبه منهم، يجول في المخيمات والأزقة العشوائية، يبحث في وجوه العابسين في الدوائر الحكومية والموجوعين في المستشفيات، يطيل النظر في ابتسامات الأشخاص المبتهجين، ثم يعود لمنزله مثقلاً بالقصص التي أصبح مصراً على أن يعرفها الجميع ويجد لها حلاً.
يرّقُ ذاك الشاب لحالِ الحزانى فيكتب عن آلامهم، ويراقب ابتهاجَ المسرورين فيوثق لحظاتهم تلك ليتركها لهم وسيلةً لاستعادةِ المشاعرِ الجميلة التي عاشوها سابقاً.
قلمه اليوم، هو عقلهُ وقلبه.. قوته وضعفه، إنسان هو ككل البشر يعيشُ كلَّ الانفعالات، يعبثُ ويتزن، يخطئ ويصيب، إلا أنه الأكثر جوداً في الحديثِ عن تجاربِه، تجده يعرّي نفسهُ ويجرّدها من خصوصيتها ليخبرَ كلَّ من وصلَ إليه حرفٌ من حروفهِ أنَّ كلَّ ما تشعر بهِ أَحَسَّهُ كائنٌ مثلكَ على الأرض، وأنّكَ لستَ وحدكَ في العذابِ كما تظن، ولستَ وحدكَ من تسللّ اليأسُ والحزنُ إلى قلبه، ولستَ وحدكَ حينَ تبكي أو تضحك كأنّما يعقدُ جلسةً خاصة مع كل قارئ له على حدة، ذاكَ القارئُ الذي لا قدرةَ لهُ للتعبيرِ عمّا يدور في ذاته، فيأتي خالد ليقبسَ من النار نوراً يضيء بها ظلامَ الأرواحِ المتعبة، ويصوغ له كلمةً أو جملةً تجعلهُ يقولُ في سرّه: "يا الله.. كأنهُّ يتحدثُ عنّي الآن، كأنّه يعرفني"، ليردَّ الآخر: "لستَ وحدكَ يا صديقي من تجرّعت عذاباتِ الأرض مراً، سبقتكَ به أنا فتمكنَ منّي سابقاً وما لبثَ أن سما بي ليجعلني اتخذَ من الحبرِ خليلاً يعرفُ أسراري وأحلامي وتقلباتِ مزاجي".
ولأنه يريد أن يعيش إنسانيتهُ كاملةً غير منقوصة يخلعُ الرّداءَ تلوَ الآخر، ويرتدي فيها الثياب التي يشتهي، وينحتُ الشخصياتِ التي يرغب ويتحدث باللكنةِ التي يريد.
يخرجُ من عباءتهِ لعباءاتِ الكثيرين، ينسلُّ من دورهِ في الحياة ليعيشَ حياةَ أناسٍ لم يلتقِهم، أو قدِ التقاهم وعلقَ في ذاكرتِه بقايا وجوههم ليكملَ كما يحبّ رسمَ الباقي مختاراً النهاياتِ التي تليقُ بالحدث، فقد يكونُ العاشقةَ والخائنَ في آن معاً، الضحيةً والقاتل، النزيه والمختلس، والساخر والباكي، يعيش الموقف كاملاً ومن كلِّ وجهاتِ النظر، لا يمارسُ الإجحافَ بحقّ إحدى شخصياته، ويعتبرُ كلاً منها وليداً له يرعاه ويقبله رغمَ كلّ عقوقه وأخطائه.
ولأنَّ الحياةَ قصيرةٌ ولا وقتَ لديه ليكون شخصاً آخر في كلِّ يوم، يتقمص الشخصيات التي يريد ويمضي بها في كل الأصقاع، يحيا الحيوات اللاتي تتوق روحه إليهن، علّه يقرأ في أشكال البشرية ما تاه عنه وما يفتقد.
ولأنَّ الحرفَ الأقربَ من الناسِ هو الذي تبقى أقدامُ صاحبه ثابتةً على الأرض ليشعرَ بها بينما يجاورُ خيالهُ السحاب ليخطَّ كلماتٍ يجدون أنفسهم ملوكاً بين حناياها.
لم يترك خالد الهندسة التي أتم دراستها، ولم يتوقف يوماً عن الكتابة، ظل رافضاً فكرة اتخاذ الكتابة مهنة خشية أن يكرهها إن أُجبِر عليها، بل يرغب بإتيانها متجدداً وسعيداً بلقاء قلمه وأوراقه، يصرّ على إكمال مسيرته دون أن يلحق به أذى شهرة تفسد عليه متعة حرية ما يقول، ليبقى ذاك الشابّ الذي يخطّ على الورق ليلاً، ليسعدَ من يقرأ صباحاً.
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.