منذ الأيام الأولى للحراك الشعبي السوري انخرط فيها وكان يقود المظاهرات الشبابية وينظمها تارة إلى نقل معاناتهم عبر وسائل الإعلام تارة أخرى؛ لذلك لم يكن اعتقاله مجرد صدفة، بل كان مخططاً له من قِبل النظام السوري، هذا ما قاله الناشط الكردي شبال إبراهيم، في حديثي معه بعد التقرير الذي قدمته منظمة العفو الدولية حول جرائم الإبادة في سجن صيدنايا.
باعتباره أحد المعتقلين السابقين في مسلخ صيدنايا، كما يسميه، يحمل في ذاكرته مشاهد وقصصاً مروعة قد لا يتخيلها كاتب الروايات البوليسية في سرده للغز القصة وحيثيات الجريمة؛ لذلك لم أستطِع الحديث معه أكثر مما خططت له لضيق وقته؛ لتردد وسائل الإعلام العربية والعالمية عليه؛ للوقوف على الحقائق المروعة الذي تعرض لها السجناء في ذلك المسلخ البشري (سجن صيدنايا).
وبما أنه كان إحدى شخصيات تلك القصص يروي شبال بعض المآسي التي لا تزال في ذاكرته، فتحدث عن استقبالهم الحافل بالكابل الكهربائي والصفع لساعات قبل أن يزج به إلى السجن المنفرد الذي لا تتجاوز مساحته متراً مربعاً، وبداخله المرحاض لعدة شهور ليتحول بعدها إلى المهجع، وهنالك يبدأ صراع آخر مع ملك الموت الذي يقضي معظم وقته يتنقل بينهم ليخطف الأرواح.
يتابع حديثه عن أساليب التعذيب من ساعات الفجر الباكر من السادسة صباحاً إلى الخامسة مساء؛ حيث يصطف السجناء طوابير إلى أن يأتي كل منهم دوره، وسعيد الحظ هو مَن يقف في المقدمة؛ لينتهي من التعذيب الذي يستمر نصف ساعة، ولأن الأنين من شدة الألم ممنوع، فمن لا يتحمل ويهمس بأنين يستمر المزيد من الضرب له، ونحن نغوص في التفكير بعد الانتظار هل سنموت أم نبقى أحياء؟
يقول إبراهيم: في صباح يوم 16 أبريل/نيسان عام 2013 قبل أن يخرج بشهر، سمعنا صراخاً ترتجف من شدته الأبدان من المهجع الذي يجاورنا، يفصلنا عنه قطعة حديد، نرتجف رعباً لمدة ست ساعات متواصلة، إلى أن جاء دورنا، دخلوا مهجعنا، ولعدم وجود أسماء، لكل سجين رقم، فنادوا بالأرقام 8، 9، 10، ولحسن حظي كان رقمي 11، وانهالوا عليهم بالضرب بالكرباج على ظهورهم، علماً بأنه سبق لي أن تعرضت للجلد على ظهري مرتين حتى فتح ظهري، وبعد كل ذلك لم يشفع غليلهم ليضربونا عشوائياً، وكنا نعلم أن التعذيب مرتبط بتطورات الثورة؛ لأن التعذيب يتضاعف يومياً،
وعندما كان يتم نقل بعض المعتقلين من المهاجع في الصباح، كنا نعرف أنهم لن يعودوا ليقتاد بهم إلى المشانق.
على الرغم من أساليب التعذيب المختلفة من الصعق الكهربائي إلى الكرباج وتعليق السجناء والشتائم يخيم الصمت والعتمة المسلخ؛ لأن الكلام والأنين ممنوع؛ ليؤكد إبراهيم أنه لم يرَ النور قرابة عام ونيّف.
وحينما سألته عن تفاصيل التعذيب الذي طالما حاول الابتعاد عنها عبر وسائل الإعلام كرَّر أنه لن يبوح بها، حرصاً على مشاعر أمهات وأقارب المعتقلين ممن راسلوه بعد خروجه من المسلخ (سجن صيدنايا).
في تلك اللحظة شعرت بأنني قد تماديت كثيراً في طرح الأسئلة، بعدما لاحظت أنه لا يريد أن يتذكر أكثر لأتوجه إلى طرح أسئلة أخرى، لعلني أخفف عن آلام مذكراته المدونة بالدم على جدران المسلخ البشري.
أما الأكل والصحة فلهما حكاية أخرى كما يرويها شبال في المسلخ الذي تتعالى فيه أصوات السجانين صراخاً وضرباً أثناء تقديمهم للأكل الذي كان عبارة عن رغيف معفن مع بيضة لكل شخصين وبعض حبات الزيتون، أو أحياناً ثلاث معالق أرز، فيقول إبراهيم: في أحد الأيام ذهبت إلى المرحاض داخل مهجعنا سمعت صوتاً، ناديت: مَن؟ قال: أنا، تعرفت عليه من صوته، إنه الرجل المسن الذي يبلغ عمره 62 عاماً، سألته ماذا تفعل؟ قال: أنا جائع وأبحث عن لب الزيتون لأمضغه؛ كي أنسى جوعي، حينها جلست باكياً لأفكر بالانتحار الذي لم أقدم عليه، شعور لا يوصف، يردد ذلك بصوت مبحوح قائلاً: تصور أن الأطباء كانوا يعذبوننا بدل مساعدتنا، لقد كنا نخشى منهم من ضربنا على مكان الألم، وذات مرة أصبت بالإسهال، وفي تلك اللحظة دخلوا علينا، بينما كنت أستخدم دورة المياه؛ لتتم معاقبتي بالضرب على رِجلي التي شفيت من الروماتيزم، بعد الضرب المبرح لم يكن هنالك أدوية غير الشاي الأسود القاتم لتخفيف حالات الإسهال المنتشرة، عدا الأوبئة الأخرى والأمراض الجلدية وساعات النوم المحددة دون غطاء.
في تلك الأثناء لاحظت أن وقتي شارف على الانتهاء معه، ولم يتبقَّ سوى 7 دقائق، سارعت إلى سؤاله عن جهوده المستمرة مع المنظمات الحقوقية والمدنية قبل أن أختتم سؤالي الأخير حول الثورة السورية التي تغيَّرت، وأصبحت عبارة عن أجندات وصراعات بعد خروجه من المسلخ البشري، كما يريد تسميته، وهل فقد الأمل بثورته؟
يقول إبراهيم: نعم لقد تغيَّر الكثير بعد خروجي من السجن؛ لأن المعارضة السورية أصبحت عبارة عن أجندات للدول المتصارعة؛ لذلك لا نمارس أي نشاط سياسي؛ لأن القرار السياسي ليس بيد الشعب السوري، ولكي لا نصبح أجندة لأية جهة استطعنا توحيد 11 تنسيقية شبابية تحت مسمى المنظمة الشبابية الكردية سوز لتوثيق الانتهاكات في كافة المدن السورية، ونتطلع لمرحلة ما بعد الأسد بعد أن تصمت البنادق؛ لأننا متفائلون برحيله عاجلاً أم آجلاً، ويبقى أملنا هو إيصال صوت المعتقلين إلى المجتمع الدولي، وما تعرضت له لا يقارن بتضحيات الشعب السوري الذي تعرض للأسلحة الكيماوية والقصف المروحي في سبيل الحرية؛ لذا فثورتنا سوف تنتصر.
ملاحظة: شبال إبراهيم هو أحد مؤسسي اتحاد تنسيقيات شباب الكرد، ومعتقل سابق في سجن صيدنايا.
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.