ضاقت الروح، واشتدت المعاناة، وأوذيت في أذنيّ، وتبددت حاسة التذوق، وكادت النفس تحبط وتيأس؛ ومن ثمّ لا عمل ولا حياة! فبين أصواتهم والجمال كما بين السماء السابعة والأرض، وبين أدائهم والإتقان بُعْدَ المشرقين، وبين أحكام التلاوة وقراءتهم للقرآن كما بين العرب والعجم اللذين لا يعرف كلاهما عن الآخر شيئاً، وإن رآه في طريق لن يلتفت إليه.. فهو المجهول!
لأن "الصلاة" -وفقاً لهذا الأداء- وظيفة، جسد بلا روح، حركات وقراءة (كلام) أشبه بالقرآن الكريم، ربما لو قرأه كفار قريش كما يُقرأ اليوم لن يفهموا منه شيئاً؛ ولأنها "وظيفة" تحتم على إمامها المعين براتب ضئيل ويقطع أميالاً ليوقِّع في دفاتر الحضور والانصراف ثم يقضي الوظيفة ويمضي، ولا وقت عنده للجلوس تحت أئمة الإقراء للتعلم؛ ولا مال، و"المصلحة" تقتضي أداء (الوظيفة) والسلام!
لم تكد تمر 10 أيام فقط على رمضان 2015 حتى انتفضت الروح، معلنة أنها لن تستطيع مواصلة ساعات العمل الطوال يومياً إلا بما يجددها، وأنها أحق بالرعاية والاهتمام والتنمية والتطوير والتنقية والتجديد. فبادرتُ بالسؤال عن محلّ إمامته؛ لأنه -وكل متقن مثله، رغم أنهم نوادر- بارع في القراءة والأداء، وصوته متقن مجيد للأحكام والتلاوة، وأقل ما يقال عنه:
صوتك إن حل في مسمعي .. يذيب الفؤاد ويمحو الألم
فأنت المعاني وكل الأماني .. وأعذب روح وأحلى معلم
دقت الساعة الخامسة وانتهى يومي في العمل؛ فهرولت إلى مسجده الذي يصلي فيه، يستغرق الوصول إليه قرابة ساعتين، يكفي الإفطار على شربة ماء في الطريق؛ فالأهم غذاء الروح والقلب والبدن. وما إن وصلت حتى وجدت المسجد شبه ممتلئ تماماً قبل أن يؤذن للعِشَاءِ، وهذه من دلالات تواجد النوادر أمثاله. مرّت أجمل اللحظات خلف أدائه الممتع المتقن، وذابت الروح في معاني القرآن وكأنها لأول مرة تسمعه هذا العام، وودعت (أئمة قريش) وسمعت القرآن كما لو أنه أنزل على النبي.
يوم 14 رمضان من نفس العام فوجئت أنني أواصل النشاط على مدار هذه الأيام دون ملل أو كلل أو حتى إدراك أن هناك ما لم أفعله أو يثقل علي؛ إذ ظل صوته في أذني وكلما فرغت من عمل أشعر وأنني أقف أصلي خلفه والقلب ينقى وبدعائه يسمو، ولسان الحال يقول:
وعاد النبض للقلب المُعنّى .. ووقع للهوى لحناً فغنى
وأضحى الكون فتاناً بعيني .. وأصبح للحياة الآن معنى
من أجلك يا حبيبي سهرت .. وصوتك أمسى لي سكنا
ذلكم القارئ مصطفى اللاهوني، أحد أشهر قراء القرآن الكريم في العالم العربي والإسلامي والأوروبي. تخرج في كلية الدعوة الإسلامية بقسم مقارنة الأديان عام 1986 وحصل على المركز الأول في المستوى الأول على مستوى العالم في القرآن الكريم حفظاً وتجويداً وتفسيراً.
امتهن الخطابة منذ الصغر، وبعد تخرجه عمل في وزارة الأوقاف، وارتاد أشهر مساجد القاهرة خطيباً على منابرها (مثل الأزهر الشريف ومسجد عمرو بن العاص ومسجد النور)، وحالياً يعمل مفتشاً أول بمساجد العاصمة المصرية. وسبق له تقديم برامج متلفزة عبر الفضائيات في أحكام علوم القرآن وشرح القراءات المتواترة وعلم المقامات الصوتية وحلقات للتفسير ومناهج المفسرين.
وفي هذا العام، رمضان 2016، يؤم اللاهوني المصلين في مسجد "مالك الملك" بمدينة العبور؛ لنقول لأئمة الوظائف الذين لم يصلوا إلى مستوى أهل قريش في الإتقان والأداء، أو على الأقل حسن القراءة فقط دون لحن، وداعاً.. إنّا إلى مالك الملك راغبون.
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.