رهانات في ظل الأزمة !

فإن السوري الذي استطاع أن يصنع نهضة علمية وفكرية وفنية في ظل مجتمع سلطوي يسوده الخوف ويسيطر عليه القهر. إذا ما توافرت لديه كل الإمكانيات وبدأ يتعلم كل اللغات العالمية -التي ستفتح له أبواب الثقافات- وأتيحت له كل مقومات الإبداع.

عربي بوست
تم النشر: 2016/04/09 الساعة 03:59 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2016/04/09 الساعة 03:59 بتوقيت غرينتش

التطور، ربما يكون مصطلح التطور ليس حكراً على رواد العلوم والجينات، فالتطور هو عملية ترافق الحياة البشرية في كل تفاصيلها وفي جميع أشكالها.
فالعلم والثقافة والمجتمع كلها أراضٍ خصبة قابلة للتطور، وكما أن عملية التهجين تشكل إحدى أهم ركائز العلوم الحديثة، فإنها أيضاً تشكل ركيزة أساسية في انتعاش الثقافة والمجتمعات.

إن إحدى أهم ركائز التطور الثقافي هو امتزاج الأفكار وتلاقح الحضارات لينتج عنها فكر إنساني مزدهر يغيّر من مسار البشرية، أما الحضارات التي تبقى منغلقة؛ فهي حضارات عقيمة؛ سرعان ما تنشأ وسرعان ما تموت. وبسبب انعزالها لا نستطيع معرفة حجمها الحقيقي مقارنة بغيرها، وتُعتبر الثقافة المتنوعة والمعقدة، المتغيرة باستمرار إحدى أهم الخصائص الإنسانية المتميزة.

الاحتلال الثقافي، كل الحضارات كانت تغزو بلادنا بحثاً عن العلم، والحضارة، والموارد؛ بحثاً عن كل مقومات الحياة والنهضة. ولكن عندما توقفت عجلة التقدم والعلوم في بلادنا، عاش عالمنا العربي في حالة من العزلة الحضارية، وهذه أول مرة في تاريخنا المعاصر نغزو العالم بثقافتنا.. نغزو العالم بأفكارنا وطموحاتنا.. بتاريخنا وأحلامنا!
نعم نحن نغزوا العالم بشكل جديد. فالسوري اليوم يغزو العالم متمثلاً بآلاف الوجوه التي مرت على أرض سوريا على مر التاريخ، وبكل الأفكار والأحلام التي ستمر في المستقبل.

بعيداً عن المشكلة الديمغرافية أو السياسية أو حتى البعد الفلسفي لموضوع الهجرة. ما زال هنالك بعد حضاري مشرق يلوح لنا بالأفق. ما زالت سوريا اليوم تعتبر إحدى أهم المراكز الحضارية في تاريخ البشرية، ولا يزال السوري يشكل محور اهتمام جميع أفراد الشعوب والأعراق، ولا يزال السوري على الرغم من كل ما جرى يحتل مرتبة الندية مع أقرانه من باقي الحضارات.

لا أحد ينكر أن الشعب السوري في العصر الحديث صنع لنفسه تقدماً علميًّا وفكريًّا واقتصاديًّا وفنيًّا لتشكل بمجموعها نهضة حضارية بعيدة عن العالم؛ واستطاع أن يميز نفسه عن غيره في أحلك الظروف وأقساها، في ظل العزلة والحرمان والقهر والاستبداد.

تلك النهضة على الرغم أنها بدت في معظم الأحيان خجولة غير مكتملة الملامح لا تستطيع المنافسة بشكل مستمر، لكنها استطاعت أن توصل رسالتها للعالمية عن طريق بعض الهجرات الفردية؛ واستطاع السوري أن يثبت نفسه في العلم والمجتمع، ويفرض احترامه وهيبته على كل الشعوب.
هذه الهيبة هي التي شجعت حكومات الدول الأوربية، على أن تراهن مع شعوبها حين قررت أن تفتح أبواب الهجرة واللجوء بعد الأحداث الأخيرة.
فمنذ أن شعرت أوروبا بحاجتها لفتح أبواب الهجرة في أواخر القرن العشرين، كانت بمشكلة دائمة مع شعوبها بسبب نوعية الأفراد المهاجرين وصعوبة اندماجهم في المجتمعات الغربية.

فجميع الشعوب التي هاجرت إلى أوروبا في القرن الماضي لم تستطع إثبات نفسها ولم تنخرط بالمجتمعات بل شكلت في أغلب الأحيان مشكلة اجتماعية وديمغرافية. مما جعل الحكومات الغربية تقع في الحرج مع شعوبها، وبدأت تضع الخطط وتصرف الأموال لعلاج هذه المشكلة.

ولكن عندما بدأت الأزمة السورية راهنت كل الحكومات الأوروبية مع شعوبها على إمكانية السوري وقدرته على الاندماج عن طريق العينات التي كانت تعيش هنا في أوروبا، وأقنعتهم بأن هذا الشعب مختلف تماماً عن كل شعوب الشرق.
هذا الشعب الذي اخترع الأبجدية الأولى؛ كيف له أن لا يستطيع تعلم اللغات الجديدة، وهو الذي صدّر للعالم الحضارة وأبحر في العلوم والفلسفات؟! كيف له أن لا يندمج ويتفاعل في المجتمع؟!

وبعد خمس سنوات من عمق الأزمة، استطاع الشباب السوري بجميع مستوياته أن يشكل حالة جديدة من الثقافة وكَسرَ القيود العربية المتراتبة، التي كانت تحاول إنتاج ثقافة منتخبة تستبعد الشباب وتعزلهم، ثقافة مكونة من أدباء وكتّاب وصحفيين تحت ما يسمى (النخبة المثقفة). تخطاها الشباب إلى نطاق ثقافي أوسع لم يكن مألوفاً في مجتمعنا وشكل خطًّا جديداً تحت ما يسمى (ثقافة الشباب)
ثقافة الشباب، التي تعتمد بشكل كبير على حرية الرأي والعمل المنظم واحترام الاختلاف والتنوع الفكري والثقافي تلك الثقافة التي تسعى لبناء الدولة الجديدة في ظل مستقبل أكثر انفتاحا وأكثر تحرراً. والتي اتخذت من مواقع التواصل الاجتماعي منبراً لها، لا تحكمهم إلا أفكارهم ولا تقودهم إلا طموحاتهم.
وبما أن الإبداع مرهون بجملة من العوامل، ركائزها الحرية والأمان وتوافر الظروف المادية. وفروعها اللغات والدعم والتحفيز وتساوي الفرص وتوافرها.
فإن السوري الذي استطاع أن يصنع نهضة علمية وفكرية وفنية في ظل مجتمع سلطوي يسوده الخوف ويسيطر عليه القهر. إذا ما توافرت لديه كل الإمكانيات وبدأ يتعلم كل اللغات العالمية -التي ستفتح له أبواب الثقافات- وأتيحت له كل مقومات الإبداع.

فأنا ومعي آلاف من الناس ومئات العلماء والمفكرين، نراهن أيضاً على الشعب السوري وعلى قدرته على إنتاج حالة إبداعية تشكل ثورة حضارية، تقود العالم في القرون القادمة وسَتكوّن نهضة عالمية جديدة بعقول سورية، وربما حان الوقت ليعود لهذا الشعب دوره في مسرح الأحداث العالمية. ولتكن شمساً عربية تسطع على الغرب من جديد.

ملحوظة:

التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

تحميل المزيد