لو علم جمال عبد الناصر أن جزيرتي تيران وصنافير تحتاجان كل ذلك المجهود من القضاء المصري لإثبات مصريتيهما، لأصدر قراراً جمهورياً بضمهما للسيادة المصرية، خاصة في المراحل التي كانت فيها علاقته بالسعودية متوترة.
أما حقيقة الأمر، فإن قضية الجزيرتين ليست بكل هذا التعقيد، لولا التفريط السياسي السعودي والإفراط القضائي المصري، اللذان أدخلا العرب مجدداً في خلاف مجاني كان يمكن احتواؤه، بل وإسعاد الإنسان العربي من خلال استثمار المكان.
فقبل إعلان تعيين الحدود المصري السعودي في أبريل/نيسان 2016م لم يكن هناك تعبئة تثقيفية بشأن طبيعة الجزيرتين وعلاقتهما الجغرافية والتاريخية بجزيرة العرب، ومن له حق السيادة عليهما وفقاً لأحكام القانون الدولي، وكان العبء الأكبر يقع في ذلك على الدولة التي تدعي السيادة وهي المملكة العربية السعودية والتي ورثت حكم المكان ممن سبقوها، ولو تركت السعودية المجاملة الزائدة التي دائماً ما كانت تمارسها في سياستها بعيداً عن مصلحتها الوطنية، كما فعلت في القطيعة مع صدام حسين طيلة سنوات، لما وصلت القضية لهذه المرحلة التي أُُحرجت فيها حكومتا البلدين.
والتثقيف بسعودية الجزيرتين يأتي من أبسط الوسائل، فكما فعلت المملكة مع بلدة الخرخير في أقصى الجنوب، وشاطئ رأس أبو قميص في الساحل الشرقي الفاصل بين دولتي قطر والإمارات كان عليها أن تفعل مع تيران وصنافير، حيث تعرّف الشعب على الخرخير وعلى رأس أبو قميص من خلال نشرة الأحوال الجوية، فكان ذكرهما يتكرر بشكل يومي طيلة سنوات حتى وَلَج لضمير الشعب السعودي أنهما جزء لا يتجزأ من ترابه الوطني، كما أن في مناهج التعليم وسيلة لتعريف صغار الشعب بأطراف حدود بلادهم؛ لتبقى في ضمائرهم عندما تقع الشدائد فتثيرهم ذاكرتهم للدفاع عنها من مواقعهم أياً كانت.
ويبدو أن حرص المملكة على عدم الاحتكاك بإسرائيل عسكرياً وسياسياً أحد أسباب الصمت الإعلامي السعودي الطويل عن الجزيرتين، وقد يكون لسوء إدارة ملف الصراع العربي الإسرائيلي من قبل العرب دور في عدم تحفيز المملكة للدخول فيه كطرف مباشر له أرض محتلة.
وتولى مواجهة المطلب السعودي في الجانب المصري قضاؤه باعتبار الحكومة المصرية سارت على هدي الحكومات السابقة في اعتبار السعودية صاحبة السيادة على الجزيرتين، وآخر وسائل القضاء ما صدر في يوم الاثنين 16 يناير/كانون الثاني 2017م من خلال المحكمة الإدارية العليا وهو حكمها الذي رأت فيه مصرية الجزيرتين، وتم تسطير الحكم في 60 صفحة، واستغرق القضاة وأطالوا في الحديث عن المسائل التي شكلت نقاط ضعف للمحكمة في نظرها للنزاع، ويبدو أن تلك المحكمة أرادت تسجيل موقف لها في التاريخ الوطني المصري وقد نجحت في ذلك، لكن هل أقنعت المتلقي المطلع بما أوردته في حيثيات حكمها؟ دعونا نستعرض أبرز ما تضمنه الحكم مع التعليق عليه:
1.تم استغراق ما يقرب من نصف الحكم في الحديث عن نظرية السيادة والدفاع عن مبدأ الاختصاص، وطغى ذلك على الجانب الموضوعي في التصدي للنزاع، وحاولت المحكمة الخروج من المعنى المستقر لأعمال السيادة لمعنى متجدد مصدره ثورة المجتمع المصري بعد 2011م، والسبب أن القضاء الإداري استقر على أن إبرام المعاهدات من أعمال السيادة الخارجة عن اختصاص القضاء، وهي من الاختصاصات الأصيلة لمجلس النواب، وكان على المحكمة أن تبذل كل ذلك الجهد لعلها تقنع المختصين المتابعين بسلامة إجرائها.
2.عاد الحكم عدة مرات لاتفاقية العام 1906م بين الدولة العثمانية ومصر، والسبب في العودة لها في عدة مواضع من الحكم، كونها تشكّل المستند الأقوى بمواجهة ادعاء غياب السيادة المصرية على الجزيرتين قبل أن ينتصف القرن العشرون.
3. تم الاستناد لممارسات إدارية وقانونية على أرض جزيرة تيران ومحيطها مثل تفتيش السفن العابرة لمضيق تيران، وإنشاء مركز شرطة في الجزيرة، وإصدار لوائح عن المحميات الطبيعية، مع أن كل تلك الممارسات ليست منشئة لحق؛ بل هي نتاج الأمر الواقع المتمثل بوضع اليد على المكان (حتى يقضي الله أمراً كان مفعولاً).
4.ذكّر الحكم أن السلطات المصرية كانت تفتش السفن الإسرائيلية العابرة لمضيق تيران في بداية الخمسينات كدليل على سيادتها على الجزيرة، مغفلاً أن هذا التفتيش هو من توابع سماح السعودية – ضعيفة الإمكانيات – في حينه لمصر باحتلال الجزيرتين للتصدي لإسرائيل.
5.قررت المحكمة أنه لم يثبت عبر التاريخ أن السعودية مارست أي مظهر من مظاهر السيادة على الجزيرتين، ولا أعلم هل تتبعت المحكمة تتبعاً دقيقاً الممارسات التاريخية للسعودية أو كل من حكم جزيرة العرب قبلها في تلك المنطقة قبل أن تجزم بذلك الرأي! وأحيط – بهذه المناسبة – علم المحكمة بالمعلومة التاريخية التالية: ورد في كتاب" في شمال غرب جزيرة العرب" لحمد الجاسر الصادر عام 1981 كطبعة ثانية في ص 110 الآتي: (.. ويروي د. جواد علي في مؤلفه " الفصل في تاريخ العرب قبل الإسلام، ج2، ص55″ أنه في القرن الخامس الميلادي تولّى حكم دومة الجندل ملك يدعى امرؤ القيس، بعد أن انتقل إليها من شرق الجزيرة مع قبيلته، واتخذ دومة الجندل قاعدة لملكه، وتوسّع ملكه حتى شمل بلاد الأردن، وجزيرة "تيران" في البحر الأحمر) انتهى. ودومة الجندل تقع في شمال جزيرة العرب وكانت تحت الحكم السعودي في دولته الأولى التي نشأت في العام 1744م وهي تحت الحكم السعودي اليوم في دولته الثالثة.
6.انتقت المحكمة مراجع ورسائل جامعية تتماهى مع رؤيتها، بمقابل عدد أكبر من المراجع المناقضة لرؤيتها وقد حاولت المحكمة استدراك ذلك بالإشارة في نهاية الحكم إلى أن الآراء الفقهية والعلمية عن ذات الموضوع غير ملزمة للمحكمة (وتقصد بالطبع المخالفة لرؤيتها).
7.أخيراً وهو الأهم فإن المحكمة عندما تناولت في حيثيات حكمها الحجج الجغرافية وطبيعة المكان أسهبت في الحديث عن السطح الخارجي للجزيرتين ومحيطهما، وتجنبت العنصر الأهم الذي يتم الاستناد عليه في الملكية والسيادة في قانون البحار ويتمثل بالجرف القاري؛ حيث إن الجزيرتين امتداد بري لجزيرة العرب أسفل الماء، وهما مفصولتان عن شبه جزيرة سيناء بفالق عميق يمكّن السفن من المرور (انظر لقاء مع العالم المصري/ فاروق الباز لقناة المحور).
ويمكن اختصار القضية كاستحقاق في العبارة التالية "من يحكم جزيرة العرب يحكم تيران وصنافير استناداً للجغرافيا والتاريخ، وحديثاً للقانون الدولي العام".
وبعيداً عن الصراع القانوني والسياسي وتفهماً لحساسية الشعب المصري تجاه هاتين الجزيرتين وبروح عربية تضامنية، أرى أنه ينبغي النظر للمسألة بعمق استراتيجي مصلحي أعمق فخليج العقبة بأكمله ورقة رابحة طبيعية للعرب في مواجهة إسرائيل، وعلى الدول العربية المطلة على هذا الخليج التفاهم الشامل بكل المجالات، وعلى مصر والسعودية الاستفادة مما تضمنته الاتفاقيات التي وُقعت بينهما في أبريل/نيسان 2016م ومن خلال إذابة مسألة السيادة بالاستثمار الاقتصادي السياحي المشترك، ففي ذلك المخرج القانوني والسياسي والنفسي لقضية الجزيرتين وعودة لروح العمل القومي العربي الفعّال الذي من خلاله يستفيد الجميع، وبدل أن تظل الجزيرتان بؤرة خلاف وصراع، علينا أن نحوّلهما إلى فضاء تعاون بين الأشقاء وأن تكونا جسراً وجدانياً للقلوب وجسراً إسمنتياً لوسائل النقل بين مشرق الوطن العربي (آسيا) ومغربه (إفريقيا).
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.