خرج من الناس يوم الثلاثين من يونيو أصناف ثلاثة؛ الأول: شارك بوجه سافر في الترتيب للانقلاب، وقام بدور كبير في التهيئة والتعبئة والتضليل، وهم قليل.
والصنف الثاني: خرج مُكابراً كارهاً للإخوان ورافضاً أن يحكموا، حتى لو اضطر أن يضع يده في يد قاتله، ومن خرج عليه بالأمس. وشعاره الضرورات تُبيح المحظورات، وليس لديه مانع من أن ينقلب على الحرية والديمقراطية؛ إذا جاءت الأخيرة بمن يكره. وهم أيضاً قليلون.
أما الصنف الثالث: فخليط من الناس لا ناقة لهم ولا جمل. تم اللعب بأدمغتهم، وتضليل عقولهم، فخرجوا يهتفون، ولا يدرون نتيجة ما هم مقدمون عليه، وما ينتظر الوطن جراء خروجهم هذا!
الصنفان الأول والثاني خططا ودبرا وكانا واعييْن بمآلات الأمور، ولكن كان همهم الانتقام، فقدموا حظ النفس على حظ الوطن ومستقبل أبنائه. والثالث: لا أستطيع أن أعفيه من المسؤولية، وهم العدد الأكبر والأخطر، كما أنهم الرصيد الاستراتيجي للمستبد، لينال شرعيته وهيمنته.
ولست أدري كيف فكر هؤلاء في الخروج على أول تجربة ديمقراطية كي يهدموها بعد عام واحد من وضع أساسها. وهم الذين تمنوها بالأمس وشهدوا ولادتها العسيرة، بل وضحوا في سبيلها بالغالي والنفيس. واليوم يخرجون لوأدها في مهدها!
ولا أدري كيف يُطالبون بانتخابات رئاسية مبكرة، وليس لديهم اسم واحد يعرضوه للترشح؟! وتعلو أصواتهم بإسقاط نظام جاء بالصندوق، وليس لديهم بديلاً واحداً يقدمونه حال السقوط؟! كما لم يسألوا أنفسهم كيف ستُدار البلاد وبها تسعين مليوناً بلا مؤسسات برلمانية ورئاسية؟! وكم ستتكبد خزينة الدولة جراء هذه الدعوات؟! والتي لا يتحملها سوى الفقراء وما أكثرهم.
وأقولها الآن وبكل صراحة: أن خروج هؤلاء لم يكن له ما يبرره، وليس لهم أدنى حق في الردة عن الديمقراطية، والدعوة إلى الهدم وهم لا يمتلكون خارطة للبناء. لقد كانت أجسامهم جسراً عبر عليه الانقلابيين للإجهاز على الحرية، والنيل من التجربة الديمقراطية! مما كانت نتائجه الوخيمة ارتداد الوطن إلى عصور الظلم والطغيان والبطش والفساد، وعودة دولة البوليس والقمع، وانتشر القتل وسالت دماء الأبرياء. بعدما استطاع ثوار التحرير أن يفتحوا بدمائهم نافذة للحرية، ويرسموا بأرواحهم طريقاً للعدالة الاجتماعية!
لا عذر لتعطيل العقول عن التفكير، وصم الآذان عن السمع والتدبر. وفي سورة الملك، علل نفر من أهل النار ما صاروا إليه بسبب غياب الانتباه والإنصات لداعي الحق، وتعطيل العقل عن تدبر المآلات، فقالوا: "لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ". وحتى لو كانت نيتهم طيبة كما يزعمون، لأن من الحب ما قتل كما قيل، والحكم على الأفعال والنتائج، فإذا كانت نتائج الأفعال وخيمة على فاعلها وعلى الجميع، وجب الأخذ على أيديهم، والحيلولة بين تهورهم وحسن نيتهم.
جاء في صحيح البخاري، من حديث السفينة، عن النُّعْمَانَ بْنَ بَشِيرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "مَثَلُ القَائِمِ عَلَى حُدُودِ اللَّهِ وَالوَاقِعِ فِيهَا، كَمَثَلِ قَوْمٍ اسْتَهَمُوا عَلَى سَفِينَةٍ، فَأَصَابَ بَعْضُهُمْ أَعْلاَهَا وَبَعْضُهُمْ أَسْفَلَهَا، فَكَانَ الَّذِينَ فِي أَسْفَلِهَا إِذَا اسْتَقَوْا مِنَ المَاءِ مَرُّوا عَلَى مَنْ فَوْقَهُمْ، فَقَالُوا: لَوْ أَنَّا خَرَقْنَا فِي نَصِيبِنَا خَرْقًا وَلَمْ نُؤْذِ مَنْ فَوْقَنَا، فَإِنْ يَتْرُكُوهُمْ وَمَا أَرَادُوا هَلَكُوا جَمِيعًا، وَإِنْ أَخَذُوا عَلَى أَيْدِيهِمْ نَجَوْا، وَنَجَوْا جَمِيعًا".
وهؤلاء الساذجون "يشردون باستمرار في حدود اللاشعور ويتلقون بطيبة خاطر كل الاقتراحات والأوامر. كما أنهم ملأى بالمشاعر الخاصة بالكائنات غير القادرة على الاحتكام للعقل ومحرومون من كل روح نقدية. وبالتالي فهم لا يستطيعون إلا أن يُبْدُوا سذاجة وسرعة تصديق منقطعة النظير". كما يقول غوستاف لوبون.
إن هؤلاء هم أذرع المنقلب والمستبد ليضرب بها الديمقراطيات، ويمحو بها مسارات النهضات. ولما أراد (مُصدَّق) تطوير إيران قبل ستين سنة وبدأ بتأميم النفط، ونوى التنمية وتمكين المخلصين واستبعاد الخونة من نظام الشاه القديم، استخدمت أميركا، الغوغاء وفقراء الفلاحين لإقصائه والانقلاب عليه.
وروت (بي نظير بوتو) قبل مقتلها في مذكراتها، بأنها كانت تعيش في أميركا، فزارها ممثل عن وزارة الخارجية الأميركية وبصحبته ضابط من المخابرات الأميركية، وطلبا منها أن تستعد لتكون رئيسة جمهورية الباكستان، فضحكت وقالت: كيف وأنا لا أملك حزباً ولا أنصاراً؟ فقالا لها: نحن نطلب موافقتك فقط، وعلينا الباقي. تقول: فوافقت. وحين خرجت من مطار إسلام آباد فوجئت بمليون يهتفون باسمي. فعرفت لأول مرة أسرار السياسة!
وانظر كيف أثرت حركة تمرد في عقول الجماهير، وهي التي أثبتت التسريبات بأنها ممولة من الخارج من أجل تحريك الجماهير للردة على الديمقراطية والحرية، ولإحداث حالة فراغ، كي يلج منها الانقلاب ويقتل الثورة قبل التمكين. وهذا شبيه بما جاء في كتاب "نفح الطيب من غصن الأندلس الرطيب للمقري": أن حالة فراغ حدثت في غرناطة أثناء الاضطرابات في أيام دويلات الطوائف، فتعاون زبَّال وكنَّاس على تنصيب قصَّاب أميراً على غرناطة، وكَّونوا عصابة من أمثالهم، ودام حكمهم أياماً.
وبعد.. فإن للعائدين توبة، والصف الثوري يرحب بكل من يؤوب، ويفتح ذراعيه لكل من لم تتلطخ أيديهم بالدماء، وعلى العائدين بعد مرور ثلاث سنوات من الردة عن الديمقراطية أن يعوا الدرس بأن ما خرجوا إليه كان مقدمة لما وصلت إليه البلاد وهو غير خافٍ على أحد. وأن خيارهم في دعم الانقلاب خيارهم في دعم الثورة والمسار الديمقراطي إذا فقهوا. أما أن يحضروا هناك، ويغيبوا هنا فعودتهم ناقصة، والمثل يقول "من أحضر العفريت فعليه أن يصرفه" أو على الأقل يساعد من يصرفه.
لقد قيل لولا أبوبكر الصديق ووقفته ضد المرتدين وما نعي الزكاة بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم لانتهى أمر الإسلام وغاب.
واليوم إن لم يقف الجميع صفاً واحداً على اختلاف توجهاتهم ومعهم العائدون من الثلاثين من يونيو، ويتعالوا على جراحاتهم، ويتوقف التلاؤم والتلاسن والاتهامات، ويتعاونون على المتفق عليه وهو كثير، ويعذر بعضهم بعضاً على المختلف فيه وهو قليل، وتُقدم مصلحة الوطن على المصالح الفئوية، ويتعاملون مع الناس بمنطق الدعوة وشعارها الرحمة" اذهبوا فأنتم الطلقاء"، ونحن "دعاة ولسنا قضاة". وليس بمنطق الدولة، وشعارها المحاسبة والمساءلة وإلقاء التهم، وتعليق المشانق، وتصنيف الناس والحكم عليهم.
إن واجب الوقت الآن التقارب من التيار النادم العائد من تأييد الانقلاب، ومن ثم التعامل معهم بصدر رحب ونسيان ماضيهم، فالثورة تجب ما قبلها. والنظام المنقلب منذ ثلاث سنوات يساعد، وفعل في من وقفوا معه بالأمس الأفاعيل، حتى نفضوا أيديهم منه، وانفضوا عنه، وتركوه وحده، بعدما بان لهم زيفه وخداعه وانقلابه، وتبين لهم بما لا يدع مجالاً للشك لديهم بأن طريق الديمقراطية هو أقصر الطرق إلى الحرية والتقدم والرخاء والاستقرار، وما عداه وهْم، يحسبه الظمآن ماءً حتى إذا جاءه لم يجده شيئاً.
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.