القضية الفلسطينية وإسرائيل في ميزان النظام الإقليمي العربي المضطرب بعد ثورات الربيع العربي

شهدت المنطقة العربية خلال السنوات الأخيرة اضطراباً في ملامح النظام الإقليمي من جراء التحول البنائي الذي أحدثته الثورات العربية على المنطقة، وقد أكسبت تلك الأحداث إسرائيل مجموعة من الفرص التي ساعدتها على التقدم نحو الولوج إلى عملية تطبيع مع العالم العربي عبر بوابات خلفية.

عربي بوست
تم النشر: 2016/09/04 الساعة 08:28 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2016/09/04 الساعة 08:28 بتوقيت غرينتش

عربي بوست – ترجمة

مقدمة البحث

شهدت المنطقة العربية خلال السنوات الأخيرة اضطراباً في ملامح النظام الإقليمي من جراء التحول البنائي الذي أحدثته الثورات العربية على المنطقة، وقد أكسبت تلك الأحداث إسرائيل مجموعة من الفرص التي ساعدتها على التقدم نحو الولوج إلى عملية تطبيع مع العالم العربي عبر بوابات خلفية.

وفي غضون ذلك، تبقى حالة التقارب العربي – الإسرائيلي، التي تتمركز حول عدد من القضايا ذات الاهتمامات المشتركة، واجهةً للمشهد الجيوسياسي بالمنطقة خلال المستقبل القريب. لكن تلك العملية لا تضمن قبول الوجود الإسرائيلي بمنطقة الشرق الأوسط أو استمرار الروابط التطبيعية بينها وبين دول المنطقة.

وتحاول إسرائيل تصوير القضية الفلسطينية بأنها ليست ذات صلة بأمور التطبيع، في أعقاب تزايد فرص التعاون الاستراتيجي مع الدول العربية.
بيد أن غياب الحلول للصراع الإسرائيلي المستمر مع الفلسطينيين سوف يبقى حجر العثرة الذي يعوق أي تطور في العلاقات مع الدول العربية.

موقع إسرائيل في الشرق الأوسط الجديد

تسعى إسرائيل إلى اتخاذ موقع لها وسط الموقف الإقليمي المائع الذي تسبب فيه وقوع كثير من جيرانها فريسة للاضطراب الداخلي، فضلاً عن حلحلة الوضع الجيوسياسي الناتج عن التنافس السعودي – الإيراني، وكذلك تزايد حالة الصلف الروسي في مواجهة الانسحاب الأميركي الملحوظ. وفي هذا السياق، تبرز إسرائيل باعتبارها أكثر المستفيدين من اضطراب النظام الإقليمي في أعقاب الثورات العربية.

على الرغم من ذلك، يبدو أن الفرضية التي تقول إن الوقت والتاريخ يقف في جانب إسرائيل، ربما تثبت عدم صوابيتها على المدى البعيد.
فعلى الرغم من حالة الفوضى التي تنتشر في كثير من البلدان المجاورة لإسرائيل، فمن المؤكد أن ثمة مجموعة من العناصر المرتبطة بالنموذج الإقليمي الحالي التي تستفيد منها إسرائيل من الناحية الأمنية.

انزلقت أقدام إيران ووكلائها بالمنطقة، أبرزهم حزب الله، في وحل عدد من الحروب الإقليمية، أما إسرائيل، فقد تسبب عزمها وقدرتها المؤكدة على استخدام القوة الحربية بسوريا للدفاع عن مصالحها؛ في مزيد من حالة الهدوء الذي فرضته بطول حدودها.

وفي غضون ذلك، تشكل حالة التفتت التي تعاني منها كيانات الدول الوطنية التقليدية، التي أُنتجت في الأساس عبر سلسلة من النظم السياسية بدءاً من اتفاقية سايكس بيكو، مقدمة لآفاق التحالفات الإسرائيلية الجديدة مع مجموعات الأقليات مثل الأكراد والدروز.

وترى إسرائيل أنه من خلال النموذج الحالي، ليس ثمة من يمكنه تحدي قدرة إسرائيل على الإبقاء على الوضع الحالي فيما يتعلق بمسألة الأرضي الفلسطينية أو من يمكنه فرض تكاليف باهظة عليها في حال استمرار الاحتلال.

فقد فاقمت حالة التنافس بين اللاعبين الإقليميين من حالة الفرقة في الداخل الفلسطيني، كما أعاقت القرار الفلسطيني. وعلاوة على هذا، تزايد تقارب النظرة الاستراتيجية لمصر تحت حكم السيسي بعد انقلاب 2013 من نظرة إسرائيل، من جراء العداوة المشتركة تجاه الإسلام السياسي، ونتج عنه مستوى غير مسبوق من التعاون في سيناء وغزة.

كما استغلت إسرائيل حالة الفوضى الإقليمية لتبرير عدم إحراز تقدم في القضية الفلسطينية، وتملصت من النقد الموجه لسلوكياتها بالأراضي المحتلة. فالصراعات العنيفة في سوريا والعراق وليبيا واليمن -على سبيل المثال لا الحصر- جمعت أجندات السياسات الأجنبية لقادة العالم، مما يعني أن كثيرين يرون أن القضية الفلسطينية ذات تبعات استراتيجية أقل مما كانت عليه بالنسبة للشرق الأوسط.

وفي خلفية المشهد المضطرب، يبرز القادة الإسرائيليون ليبرهنوا على أن حالة الاضطراب الإقليمية الحالية تثبت أن غياب الحلول في مواجهة الصراع الإسرائيلي – الفلسطيني لم يعد السبب الرئيسي وراء عدم استقرار المنطقة ونكبتها.

وانتقد مسؤولون إسرائيليون الالتفاف الدولي المحدود لإيجاد حلول للصراع الإسرائيلي – الفلسطيني، بينما تركز نسبة كبيرة وغير متناسبة على إسرائيل، في الوقت الذي تحترق فيه باقي المنطقة، ويتساءل هؤلاء عن السبب الذي يجبر إسرائيل على قبول تسويات قد تهدد أمنها وسط جيرانها بتلك المنطقة الخطيرة.

إلا أن تلك التعليقات تتجاهل العقدين الماضيين اللذين شهدا حالة استقرار نسبية بينما ظلت محادثات السلام جامدة، فضلاً عن حالة الهدوء وثيقة الصلة التي أتيحت لها من خلال علاقاتها غير المباشرة مع عدد من الدول العربية.

البوابة الخلفية للتطبيع

على الرغم من تصوير إسرائيل نفسها بأنها مثل "القصر الأنيق وسط الأدغال"، وأنها محاطة بـ"وحوش شرسة"، فإن ذلك الخلط الذي تشهده الخريطة الجيوسياسية للشرق الأوسط أمدها بفرص غير مسبوقة لتنفيذ سياسات التطبيع مع القوى الإقليمية من البوابات الخلفية، وبشكل منفصل تماماً عن سياق القضية الفلسطينية.

اضطرت الأنظمة العربية بسبب التحديات العديدة التي تواجهها في الداخل والخارج، لحقن شرايينها بجرعة كبيرة من الواقعية السياسية فيما يتعلق بالتعامل مع إسرائيل في القضايا الرئيسية، بدءاً من الملف الإيراني، ومروراً بمحاربة الإرهاب، وانتهاءً بالتعاملات التجارية والحصول على الطاقة. فبينما تنعم إسرائيل بعلاقات وطيدة مع مصر والأردن منذ توقيع اتفاقية السلام مع مصر عام 1979 ومع الأردن عام 1994، فإن التقارب بينها وبين عدد من الدول العربية الأخرى، التي لا تعترف بإسرائيل رسمياً، يتزايد يوماً بعد يوم، وعلى وجه التحديد: دول الخليج مثل دولة الإمارات.

تطورت كثير من علاقات إسرائيل مع الدول العربية في سكون على مر سنين من الزمن، أو ربما عقود من الزمن. على الرغم من أن تلك العلاقات ظلت متحفظة مع معظم أجزاء العالم، باستثناء علاقاتها مع أوروبا والولايات المتحدة، فإن السياق الإقليمي الحالي أتاح لتلك العلاقات أن تطفو على سطح المشهد وتتوسع أيضاً، ولا سيما أن ثمة التقاءً بالمصالح المتعلقة باحتواء الهيمنة الإيرانية والطائفية الشيعية ودحرها، وهو الأمر الذي حفّز توسع العلاقات بين إسرائيل والدول العربية السنية بالشرق الأوسط، وتداخلت تلك الأمور مع حالة الإحباط من الاتفاق النووي مع طهران ورفضه، وهو الاتفاق الذي ترعاه الولايات المتحدة التي بدا أنها تنسحب بشكل ملحوظ من الشرق الأوسط.

وكما قال رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو: "ثمة اعتراف جديد بين عدد من الدول الرئيسية بالشرق الأوسط أن إسرائيل ليست عدوهم اللدود، على أقل تقدير، لكنها حليف محتمل أمام تلك التحديات المشتركة". ولم يختلف وزير الدفاع السابق لإسرائيل مع ما قاله نتنياهو، إذ قال: "يمكننا أن نجتمع في الغرف المغلقة لكننا لا نمتلك قنوات لنتحدث من خلالها مع الدول العربية السنية المجاورة. ولا يقتصر الأمر على الأردن ومصر وحسب، بل وأيضاً دول الخليج ودول شمال أفريقيا. فهم يرون أن إيران عدو لهم".

وطالما وصف نتنياهو دولته إسرائيل بأنها شريك أساسي للحكومات العربية في قضايا محاربة الإرهاب والإسلام الأصولي وإيران، وهم الخصوم الثلاثة الذين يخلط دائماً بينهم. فعلى سبيل المثال، في مارس/آذار 2016، أوضح نتنياهو أن "الدول المختلفة تتفهم أن إسرائيل ليست عدوة العالم العربي، بل إنها شريكته في الصراع المشترك ضد عناصر الإسلام الأصولي". ويمكن أن يُنظر إلى تصنيف مجلس التعاون الخليجي لحزب الله بأنه جماعة إرهابية في مارس 2016، على أنه تصديق للاعتقاد القائل بأن إسرائيل يمكنها أن تتشارك الاهتمامات مع العالم السني ضد إيران ووكلائها.

وبطرائق عديدة، يتيح المشهد الإقليمي الحالي لإسرائيل أن تقوض المساعي الفلسطينية للاعتراف، في مقابل تحقيق مسعاها بالتطبيع. وبالإشارة إلى العلاقات المزدهرة مع دول الشرق الأوسط وآسيا وإفريقيا، التي ينعم نتنياهو بها، يتيح ذلك الأمر لقادة إسرائيل بأن يبرهنوا على أن حل القضية الفلسطينية لم يعد مطلباً، حتى في العالم الإسلامي، من أجل الاعتراف بإسرائيل وقبولها شريكاً استراتيجياً، ولا سيما أن إسرائيل تسعى لتمهيد طرق لها نحو إفريقيا، ويبرز ذلك الأمر من خلال جهود تجديد العلاقات الدبلوماسية مع دولة تشاد -ذات الغالبية المسلمة- فمن المرجح أنها ستجني ثمار ذلك في المستقبل القريب. وعلى الجانب الآخر، طرح نتنياهو احتمالية إقامة علاقات دبلوماسية مع إندونيسيا، أكبر دولة إسلامية من حيث التعداد السكاني، وعن ذلك يحمل نتنياهو أحجية تقول: "إن الوقت قد حان لتغيير علاقاتنا، لأن السبب الذي كان يمنعنا من ذلك لم يعد ذا صلة".

ومع استمرار احتمالية وجود مساحة كبيرة لتطور العلاقات العربية الإسرائيلية قبل الاصطدام بما يمكن إنجازه بدون التطبيع الكامل، قد يكون من الخطأ تفسير الصورة التي لا تزال تقارباً محدوداً مع الدول العربية، بأنها قبول للوجود الإسرائيلي في الشرق الأوسط. كما لا ينبغي أن تؤخذ الظروف الحالية بأنها إشارة توحي بأن الدول العربية سوف تتخلى علانية عن الشروط التي وضعتها فيما يتعلق بالتطبيع من خلال مبادرة سلام عربية.

وبعيداً عن عملية تصفية الأمور حتى النخاع، فإن العلاقات العربية – الإسرائيلية تبقى هشة الجذور. وعلى الرغم من أن النخبة العربية تبدي استعدادها المتزايد للتعاون مع إسرائيل في القضايا ذات الاهتمامات المشتركة، فإن الرأي العام العربي يبقى معادياً لإسرائيل بضراوة. وعليه، فطالما بقيت تلك الأمور عين القضية، فإن قدرة القادة بالشرق الأوسط على تعميق العلاقات مع إسرائيل ستظل محدودة، فضلاً عن أن طبيعة التحول في التحالفات الإقليمية (وحالة الاستبدال السريعة بالنسبة للقادة الإقليميين) تعني أن التقدم الذي تحرزه إسرائيل مع الدول العربية يمكن أن يُفقد بسهولة، ولا ينبغي أن يُتعامل معه على أنه مضمون ودائم على المدى البعيد بالنسبة للوضع الحالي للشرق الأوسط، علاوة على أن تزايد العلاقات مع العالم العربي قد يُضعف إسرائيل أمام الاستراتيجية الفلسطينية التي تستطيع أن تستفيد من نفوذ تلك العلاقات من أجل التقدم نحو إمكانية الاعتراف بدولتها، وفي المقابل، يبدو أن اختفاء حل الدولتين واستبدال حقيقة الدولة الواحدة به، والتي لا تعترف بالحقوق الكاملة للفلسطينيين، فمن المؤكد أن ذلك الأمر سيحمل أصداءً تؤثر على العلاقات الإقليمية لإسرائيل.

الفلسطينيون المفقودون

على الرغم من أن بعض الدول العربية، مثل مصر، تستدعي احتمالية للتقارب الإقليمي من أجل حل الصراع الإسرائيلي – الفلسطيني، فإن تلك الصورة تبدو مضللة بشكل كبير، إذ إنها ترمي إلى التعمية على شرعنة العلاقات مع إسرائيل. وفي الحقيقة، يعد أكبر الإنجازات التي حققها رئيس الوزراء الإسرائيلي فيما يتعلق بالسيادة الخارجية، أن ينجح تحقيق مساعيه المتعلقة بالتطبيع بدون الاقتراب خطوة واحدة من الوضع الحالي للقضية الفلسطينية.

وقد انخفضت حدّة النبرة التي تقول إن على إسرائيل أن تجد توافقاً مع الدول الإقليمية فيما يتعلق بالقضية الفلسطينية إن أرادت أن تضمن علاقاتها مع تلك الدول، كما أتاح ذلك الأمر لإسرائيل، أن تبقي على حدّة نبرتها المتطرفة تجاه القضية الفلسطينية حتى في أعقاب محاولاتها لتعميق العلاقات مع باقي دول المنطقة، ويؤمن كثير من الإسرائيليين بدحض النظرية التي تسير بها الأمور، والتي تقول إن العرب سوف يغمضون أعينهم على مضض عن التجاوزات الإسرائيلية في حق الفلسطينيين من أجل ضمان الضروريات الاستراتيجية الأكثر إلحاحاً.

من المؤكد أنه في بعض المناسبات، تؤدي الأفعال الإسرائيلية إلى تدهور العلاقات الإقليمية، إلا أن تلك التغيرات تبدو بسيطة. استدعت الأردن ومصر سفراءها لدى إسرائيل رداً على ما فعلته في المسجد الأقصى في نوفمبر/تشرين الثاني 2012. وفي النهاية عاد كلا السفيرين في محاولة لرأب الصدع في العلاقات مع البلدين، وخلال الحرب على غزة عام 2014 -وهي الأكثر دموية مؤخراً- تعاونت مصر وإسرائيل بصورة كبيرة من أجل فرض الخناق على حماس، كما تسببت الإطاحة بالرئيس الأسبق محمد مرسي في تسهيل استمرار ذلك التعاون.

وحتى ذلك الصدع الذي أصاب العلاقات التركية – الإسرائيلية بعد مقتل تسعة نشطاء على متن أسطول السفينة التركية "مافي مرمرة" في مايو/أيار 2010، تم رأبه، وبينما كانت تركيا قادرة على اقتلاع اعتذار وتعويض من إسرائيل، تنازلت في نهاية الأمر عن شرطها الثالث المتعلق بفك الحصار عن قطاع غزة، وبدلاً من ذلك اتفقت على بند توفير الإمدادات الإنسانية التركية لقطاع غزة من خلال ميناء أشدود الإسرائيلي. وعلى الرغم من أن ذلك الأمر شعرت الحكومة التركية بأنه قد يفسر على أنه تنازل إسرائيلي، فلم يمتلك الاتفاق القدرة على تحقيق تغيير جذري في السياسة الإسرائيلية تجاه القطاع، أو تخفيف الظروف الصعبة التي يعيش فيها أهل غزة.

وتوضح السياسات الإسرائيلية الحديثة أنها تحاول تقليص الملف الفلسطيني وقصره على مجموعة من القضايا التقنية مثل البنية التحتية والأمن والاقتصاديات والإدارة، وفي طريقها نحو ذلك، تجنبت الجهود المتعلقة بالأمور السياسية التي تتخذ موقعاً في جذور تلك القضايا، كما غيرت مسار المحادثات نحو سلسلة من الحلول التقنية قصيرة الأجل. وأتاحت تلك النظرة الاختزالية لإسرائيل بتجنب المسار السياسي، بالإضافة إلى أنها أمدت شركاءها الإقليميين (والدوليين) برأس مال سياسي يمكن استثماره محلياً بهدف شرعنة اتصالاتهم مع إسرائيل.

وفي ظل كل تلك التداعيات مجتمعة، ضل الفلسطينيون طريقهم نحو أي معنى متعلق بالوكالة الفلسطينية أو لشجب تلك الاستراتيجية التخريبية من خلال استدعاء القادة العرب أو إحراجهم لاحتوائهم إسرائيل على حساب الفلسطينيين. كما لم يبدِ الفلسطينيون أي قدرة على استغلال نفوذ العلاقات العربية – الإسرائيلية لصالحهم.

وبدلاً من ذلك، بدا الأمر أن التحركات الفلسطينية من أجل الحصول على الدعم العربي، تسير في اتجاه الحصول على المساعدات الداخلية المتعلقة بالاستهلاك فقط من أجل حفظ ماء الوجه أمام شعبهم، ويبدو أن القيادة الفلسطينية تُعرّف ارتباطاتها مع العالم العربي بأنها وسيلة لتدعيم شرعيتها المؤسسية وملاءمتها في الوقت الذي تتصاعد فيه حالة من الإحباط الداخلي.

إلى متى تستمر عزلة الأراضي الفلسطينية؟

من المؤكد أن رئيس الوزراء نتنياهو سوف يبرهن على أن النموذج الإقليمي الحالي يظهر كل الإشارات التي توحي باستمراره. وعلى الرغم من تصويرها بأنها نموذج مصغر للصراعات الإقليمية، فإن الأراضي الفلسطينية ظلت معزولة بصورة ملحوظة عن الديناميكيات الإقليمية. وبطرق كثيرة يبدو أن الأحداث التي تلت الثورات العربية تركت الفلسطينيين خلفها، فالمطالب بالكرامة والحقوق التي شهدتها كثير من الدول العربية لم تترجم على أنها حالة تعبئة تستهدف تحقيق تقدم متعلق بالكفاح الفلسطيني. حتى الفلسطينيون أنفسهم لم يشاركوا في ذات السلوك الثوري الذي شهدته مصر وتونس، رغم أن أغلبية الفلسطينيين ينظرون إلى السلطة الفلسطينية على أنها تمثل عبئاً في طريقهم.

ظلت الأراضي الفلسطينية في منعة عن العنف الطائفي والتطرف الذي يضرب باقي المنطقة، فالسبب الرئيسي وراء موجة العنف المستمرة التي يركبها الفلسطينيون ضد الإسرائيليين لا تبدو شديدة التباين عن شكل الإرهاب الذي حدث في باريس أو بروكسل أو بغداد، وذلك على عكس مزاعم نتنياهو. ومع اعتراف مجموعة من المسؤولين الأمنيين الإسرائيليين المتقاعدين، فإن تلك الموجة ليست مرتبطة على الإطلاق بالتطرف الديني، إذ يقولون: "إن الموجة الحالية من العنف (الفلسطيني)، يمكن تفسيرها على نطاق واسع بأنها نتاج الحكم الإسرائيلي لأكثر من مليوني فلسطيني، ونتيجة لأديم النكال وشظف العيش والفقر المدقع الذي يعانيه الفلسطينيون، فضلاً عن غياب الأمل في أي مستقبل أفضل".

بيد أنه على المدى البعيد، قد تجد إسرائيل أن النظام الإقليمي في أعقاب الربيع العربي لن يدوم كما توقعت. وبغض النظر عن عزل الأراضي الفلسطينية عن عدوى التغيير المنتشرة إقليمياً، فثمة خطورة حقيقية متمثلة في أن تلك الأحداث مرتبطة في النهاية بمظالم الفلسطينيين الناتجة عن حياتهم الطويلة في ظل الاحتلال. تبقى الحسابات الإسرائيلية معتمدة على الوازع الأيديولوجي، وترفض إعادة ترسيم خريطة التهديدات الإقليمية التي تواجهها. كما ترى إسرائيل أن حربها ليست ضد تطرف تنظيم الدولة الإسلامية داعش الذي ضرب أوروبا، بل ترى أن حربها ينبغي أن تكون ضد التسلح الشيعي الذي تصدره إيران. ولكن في ظل الحقيقة التي تقول إن الهجوم الأخير في تل أبيب الذي نفذه فلسطينيان كان بدافع مرتبط بأيدولوجيا داعش، وهي الأولى من نوعها، فإن ذلك يبين أنها قد تكون خاطئة فيما يتعلق باعتقادها أن الأراضي الفلسطينية ستظل في منعة عن العدوى الإقليمية للأبد.

وحتى تلك اللحظة، برز العنف الفلسطيني متصلاً مع المكون القومي، غير أن البذور التي ترويها الأصولية الدينية تبدو حاضرة في المشهد، وبينما لا تمتلك الجماعات السلفية الجهادية في الأراضي الفلسطينية سوى حضور هامشي، فإن ارتفاع نسبة البطالة وحالة الإحباط العام والشعور بالانحباس بين الشباب، يمثل في أغلب الأحوال التربة الخصبة أمام التحول نحو الأصولية، خاصة في غزة التي تزداد فيها مثل تلك الديناميكيات. وسوف يتطلب تجنب العنف والأصولية أن تخفف إسرائيل من حالة الحصار الاجتماعي والسياسي المفروض على غزة، وترجمة أي مسار دبلوماسي إلى خطوات ملموسة يمكن استشعارها في الحياة اليومية للفلسطينيين. وقد توفر مثل تلك الجهود، قوة تدفع عجلة استمرار حالة وقف إطلاق النار بين حماس وإسرائيل.

إلا أن غزة ستتطلب أكثر من مجرد إعادة التأهيل الاقتصادي، إذ إن معافاة القطاع تتطلب أيضاً وحدة الفلسطينيين جغرافياً وسياسياً. فإن كانت القوى الإقليمية مهتمة بالمشاركة من خلال الإسهام الإيجابي، فعليها إذن أن تروج لإجراء المصالحة الفلسطينية التي لا تستند على الحسابات الصفرية التي تشكل المشهد الحالي لمثل تلك المحادثات. كما تمتلك مصر وتركيا دورين مهمين لتلعباه فيما يتعلق بالترويج للمصالحة الفلسطينية، في ظل ما تتمتع به الدولتان من اتصالات مع الأحزاب الفلسطينية المتنوعة وكذلك مع إسرائيل.

هل ثمة عملية سلام إقليمية؟

وصف مسؤولون أوروبيون وساسة إسرائيليون حالة التوافق المشهودة بين المصالح الإسرائيلية والعربية مصاحبة للمؤشرات المصرية التي تفيد بأن مصر قد تدفع نحو عملية سلام إقليمية، بأنها فرصة تاريخية "ستغير بدون شك وجه المنطقة". وعززت الزيارات الأخيرة لإسرائيل التي قام بها عدد من المبعوثين السعوديين البارزين ووزير الخارجية المصري، سامح شكري، من ذاك الاعتقاد؛ إذ إنهم ناقشوا خلالها احتمالية تحقيق سلام إقليمي، أضف إلى ذلك الزيارة التبادلية المحتملة التي يُتوقع أن يقوم بها نتنياهو للقاهرة في المستقبل القريب، ولا سيما أن الفكرة التي توحي بأن توسع الدور الإقليمي في عملية السلام قد يتسبب في حل الصراع الإسرائيلي – الفلسطيني، بدت جاذبة لوزيرة خارجية الاتحاد الأوروبي فيديريكا موغيريني والقادة الأوربيين الآخرين، إلا أنه ينبغي على أوروبا أن تحذر من الجهود الإسرائيلية لخداعهم من أجل الوصول إلى قضية مفتوحة بمساعدة مصر، ولا يخفى على أحد أن كليهما يبدو أنه يستخدم تلك العملية باعتبارها حيلة لتحقيق مصالح شخصية أكثر من كونه يسعى وراءها من أجل تحقيق اتفاقية سلام ممكنة مع الفلسطينيين.

وبالنسبة لمصر، يعد امتلاك تلك العملية طريقة أمام نظام السيسي للحصول على شرعية سياسية أكبر على الصعيد العالمي، فضلاً عن مساعدته شخصياً في تأمين علاقاته مع الولايات المتحدة، ناهيك عن ذكر أنها ستساعده في التملص من المجتمع الدولي على صعيد القضايا الاقتصادية وقضايا حقوق الإنسان في الداخل المصري. أما إسرائيل، فإن تلك العملية تسمح لها أن تتلاعب بالوقت خلال الأشهر المتبقية لإدارة الرئيس أوباما، وأيضاً تعوق الخطوات التي يرجح أن يكون لها تأثير، سواء تلك المرتبطة بالمبادرة الفرنسية للسلام أو تكرار التصريحات الأميركية المتعلقة بالعوامل المعتمدة دولياً لتأطير مفاوضات السلام.

من المؤكد أن ذلك الأمر لم يوقف الحكومة الإسرائيلية عن القيام باستعراض لإعادة استكشاف مبادرة السلام العربية التي أطلقت عام 2002. وعلى الرغم من أن الدول العربية عرضت عملية تطبيع كامل في مقابل اتفاقية سلام إسرائيلية مع الفلسطينيين، فلم تعرب أي حكومة إسرائيلية عن استجابة رسمية لذلك العرض. وفيما قد يمثل أول رد فعل على تلك المبادرة بعد 14 سنة من إطلاقها، صرح نتنياهو بأن مبادرة السلام العربية تحتوي على بعض العناصر الإيجابية التي يمكن أن تساعد على إعادة إحياء المفاوضات البناءة مع الفلسطينيين، وفي غضون ذلك قد تستلزم أي عملية سلام جديدة قيام الدول العربية بمراجعة الخطة.

فما يمكن قراءته بين سطور التعليق الذي قاله رئيس الوزراء الإسرائيلي يشير إلى رغبة في دفع العرب لتقديم تنازلات لا يعتزم الفلسطينيون أنفسهم تقديمها، سواء فيما يتعلق بالحدود أو بالهوية اليهودية لدولة إسرائيل. وفي ذات الوقت، لا ترى إسرائيل حاجة حقيقية لتقديم تنازلات مريرة فيما يتعلق بالقضية الفلسطينية، لكي تحصل من الدول الإقليمية على ما تمتلكه بالفعل، أو ما يمكن الحصول عليه في حالة استمرار الديناميكيات الحالية.

وفي محاولة لوصف كيف أن التحول في التحالفات الإقليمية قد يمهد الطريق أمام اتفاقية سلام دائم مع الفلسطينيين، يحاول نتنياهو استرجاع فكرة أن تطبيع العلاقات ينبغي أن تكون عاقبة اتفاق السلام مع الفلسطينيين. وفي حالة التشكك من ذلك الأمر، فإن توني بلير (الذي لعب دوراً في الدفع للوصول إلى مبادرة سلام بين مصر وإسرائيل) يوضح أنه "في حالة أبدت الحكومة الإسرائيلية استعدادها لخوض المناقشات حول مبادرة السلام العربية… قد يكون من الممكن أن يكون لدينا خطوات نحو التطبيع على طريق المناقشات بهدف إكساب تلك العملية نوعاً من الثقة. ومع القيادة الجديدة في الشرق الأوسط الآن، يمكن إتمام ذلك الأمر".

في ظل تاريخ إسرائيل الطويل من الإبقاء على التنازلات داخل جعبتها وتجنب الدخول إلى قضية الدولة الفلسطينية، فربما من الخطأ اللعب بأوراق التطبيع من أجل الحصول على مزيد من المناقشات غير المجدية. وتؤكد الرغبة في عدم الربط بين تطور العلاقات العربية – الإسرائيلية وبين التقدم الفعال نحو حل الدولتين، على أن إسرائيل تعتقد أنها يمكنها أن تنحي جانباً القضية الفلسطينية على وجه التحديد بينما تسعى لتطوير علاقات ذات قيمة مع الدول العربية، وبدلاً من ذلك، ينبغي على الجامعة العربية بأعضائها أن يستمسكوا بحزم بالشروط التي وضعت في المبادرة العربية للسلام، ولا سيما أن يكون اتفاق السلام مع الفلسطينيين هو الشرط الرئيسي لإتمام التطبيع الإقليمي.

إن بقيت الدول العربية ملتزمة بالتعاون المتزايد مع إسرائيل، كما تبدو القضية حالياً، فعليهم إذن أن يستكشفوا كيف يمكن لتنامي تلك العلاقات أن تستفيد من نفوذها من أجل التقدم لإحراز الهيمنة الفلسطينية. وقد يتضمن ذلك الأمر المناقشات مع الفلسطينيين (وأوروبا) عن الخطوات الانتقالية التي ينبغي أن تتم لضمان قيام إسرائيل بأفعال ملموسة وذات صلة تضمن تحقق السيادة الفلسطينية في مقابل حصولها على التطبيع.

وعلى سبيل المثال، يمكن للدول العربية أن تضع في عين الاعتبار التمسك بعرض جامعة الدول العربية بالاعتراف بإسرائيل وفقاً لحدود 1976 في مقابل اعتراف إسرائيل بدولة فلسطين معتمدة على عوامل دولية معتمدة بهدف حل الصراع. وقد يتصل ذلك بمجموعة من الإجراءات الإسرائيلية لبناء الثقة، مثل إتمام إعادة الانتشار الثالث الذي نصت عليه اتفاقية واي ريفر عام 1998، ومذكرة شرم الشيخ عام 1999، التي تعهدت إسرائيل خلالها بنقل أجزاء من منطقة "ج" إلى منطقة "ب" ومن منطقة "ب" إلى منطقة "أ"، وأيضاً زيادة التواجد الفلسطيني الاقتصادي بالمنطقة "ج"، وتجميد نشاط المستوطنات وإنهاء عمليات هدم منازل الفلسطينيين، بالإضافة إلى السماح بفتح المؤسسات الفلسطينية في شرق القدس وإجراء الانتخابات الفلسطينية هناك.

على الرغم من أنه سيكون من الصعب الضغط على إسرائيل لقبول مثل تلك الشروط، فإنها على الأقل سوف تقف حائلاً أمامها لكي تظهر التزاماً حقيقياً تجاه حل الدولتين، وكذلك جعل العلاقات مع العالم العربي مشروطة بذلك الأمر.

– هذا الموضوع مترجم عن موقع منتدى الشرق. للاطلاع على المادة الأصلية، اضغط هنا.

ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

تحميل المزيد