تشرب الإمبراطوريات من ذات الكأس المسمومة، لأنها عادة ما تصطدم بإرادات الشعوب التي تستهين بها، لكن سرعان ما تتحول هذه الإرادة إلى واقع يغير مسار التاريخ، وفي معظم الأحيان إلى انتصارات وطنية، مثلما حدث في نهاية القرن التاسع عشر، حين انتشرت حركات التحرر الوطني عقب الحرب العالمية الثانية!
ما أشبه نهار الأول من أغسطس/آب العام 2016 في ريف إدلب -حين سحل الثوار جثة الطيار الروسي- بنهار الثالث من أكتوبر/تشرين الأول العام 1993، حين سحلت المقاومة الصومالية جثث جنود أميركيين في شوارع مقديشو في صورة هزت الضمير الأميركي، وحركت الرأي العام المضاد لسياسة التدخل في القرن الإفريقي.
فعلاً التاريخ يكرر نفسه، وربما في بعض الأحيان يستنسخ ذاته بالشكل والمضمون. ففي العام 1993 تورطت الولايات المتحدة الأميركية بالحرب الصومالية الأهلية، وباتت الساحة الصومالية وحلاً ومستنقعاً لزجاً بالنسبة للولايات المتحدة الأميركية، تصاعدت حدة الحرب وتفاعلت القوى الدولية في الصومال، إلى أن وصلت الحرب الصومالية إلى الحادثة الشهيرة في الثالث من أكتوبر 1993، حيث سقطت مروحيتان أميركيتان من طراز بلاك هوك وطوردا طاقماهما في الشوارع من قبل الشعب الصومالي، وكانت النتيجة مقتل وسحل مذل في شوارع مقديشو لـ19 جندياً أميركياً تمرغت فيها الهيبة العسكرية الأميركية على يد أضعف دولة إفريقيا. حينها انقلبت السياسة الأميركية في القرن الإفريقي رأساً على عقب، مما أدى لسحب القوات الأميركية تماماً في 24 مارس 1994، كانت أياماً صعبة على الرئيس الجديد بيل كلينتون واتخذ القرار الشجاع بالانسحاب الفوري.
ربما البعد الجيوسياسي في الحالة السورية اليوم بالنسبة لروسيا أكبر من استرجاع حادثة مقديشو، إلا أن الصورة الرمزية تعيدنا إلى ذلك التاريخ؛ استناداً إلى نظرية التاريخ يكرر نفسه، فما جرى في ريف إدلب يحمل في ثناياه جرحاً عميقاً للقيصر الروسي الذي وجد شرقاً أوسطَ بلا قيادة أو منافس حقيقي، منتهزاً هشاشة البيئة الدولية وسبات الشرطي الأميركي.
فالهيبة الأمريكية العسكرية التي انكسرت في مقديشو هي ذات الهيبة الإمبراطورية للقيصر الروسي باعتبارهما عقلين إمبراطوريين، فالسلاح الروسي وغرور فلاديمير بوتين تم إسقاطه وتمريغ "كبريائه" بتراب إدلب.. التي دفعت ثمن هذا التحدي في اليوم التالي بالغاز السام، في انتقام عَكَسَ حجم الألم.
شاءت الأقدار أن تتزامن عملية السحل للطيار الروسي مع انتصارات حلب وفك الحصار وقلب للموازين على الأرض، في هذا المشهد انتصار كبير لمعنويات الثوار قد يكلفهم ثمناً باهظاً، لكن الصورة التاريخية التي هزت روسيا ستبقى خالدة وتعيد ذكريات الهزيمة المُرَّة في أفغانستان.
بالنسبة للمعارضة، مفهوم الانتصار لا يتعلق بمعركة معينة ولا بسقوط جبهة أو التقدم على جبهة، إنها حرب طويلة على مدار خمس سنوات، لكن بالنسبة للروس فإن الانتصار أولاً وأخيراً وتحقيق السيطرة على الأرض هو المهمة الرئيسة.. إلا أنها في كل يوم تبدو بعيدة رغم سياسة الأرض المحروقة.
هذه الحادثة الثانية لإسقاط مروحية ومقتل جنود روس، ففي التاسع من الشهر الماضي يوليو/تموز، أسقط مقاتلو تنظيم الدولة بسوريا مقاتلة من طراز "مي-25" كانا يقودانها طياران روسيان، وفي أقل من شهر واحد أُسقطت مروحية -هذه المرة روسية- فهل ستعيد روسيا الحساب في البركة السورية المريرة؟
الإمبراطوريات لا تتعاطف مع الشعوب لكنها تخاف، فالإيطاليون لم يعطفوا على عمر المختار وهو على حبل المشنقة، وقد كان بإمكانهم نفيه إلى جزيرة معزولة، لكن بالرغم من أنها كتبت نهايته بحبل ومنصة خشبية، إلا أنه مات كريماً حظي باحترام قادة إيطاليا.
كبير حجم هذا الدب الروسي على دولة مثل سوريا، وقاسية تلك المواجهة بين من هم يواجهون السوخوي بـ"الدواليب المحروقة المظللة"، وبين القوة العسكرية الثانية في العالم، صعبة ومؤلمة مثل هذه المهمة لكنها ليست مستحيلة تحمل أبعاداً تاريخية، كان للشهيد يوسف العظمة وزير الدفاع السوري مقولة فيها حين سألوه كيف تواجه فرنسا العظمى ببنادق لا تستطيع أن ترد الجيش الفرنسي؟ فقال "لن أدع التاريخ يذكر أن الجيوش الفرنسية دخلت سوريا من دون مقاومة".
في كتابه الثمين أميركا والسلام في الشرق الأوسط، يقول الكاتب الأميركي دان تشيرجي، إن الرئيس الراحل ياسر عرفات التقى سفير الاتحاد السوفييتي "الحليف" في الكويت وقال له "سأشعل الشرق الأوسط بقنبلة مولوتوف".. لم يتأخر أبو عمار فعلاً وفعلها بإعلان الكفاح المسلح بأول عملية عسكرية باسم "عملية نفق عيلبون".. وما زال طريق المقاومة متقداً من شعلة ياسر عرفات.
الدرس الأعظم في ثورات الربيع العربي ليس فقط انتزاع قيم الحرية والكرامة من النظم الديكتاتورية، وإنما اكتشاف مفهوم "الإرادة الشعبية"، وظهور لاعب جديد على مسرح الشرق الأوسط، هو الشعب الذي فجر الصراع علنياً في مصر وسورية وليبيا وتونس، هذه الإرادة التاريخية لشعوب المنطقة ما زالت تعاني من هيمنة وأنانية القوى الكبرى قبل الأنظمة القمعية، لذا فإن هذا الصراع هو صراع ديكتاتوريات بالوكالة مع شعوب المنطقة، فالمعركة الحقيقية بين ما يريده الغرب، وما تطمح إليه قوى التغيير الاجتماعي.. سقوط كل طائرة أو جندي من الغرب جولة انتصار تعقبها جولات.. حان الوقت ليكتب "مواطن عربي".
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.