يعمل العقل البشري عبر آلية من ثلاث مراحل متعاقبة: الاستقبال بالحواس (reception) من خلال الاستجابة، ثم الإدراك بالعقل (perception) من خلال الوعي، ثم الفهم بالذهن (conception) من خلال الخبرة، وبطبيعة الحال، فإن غاية ما يصبو إليه الإنسان الحر هي أن يعيش "متنبهاً" لما يستقبل ويستجيب، و"محللاً" لما يدرك ويعي، و"ناقداً" لما يفهم ويخبر، فأحياناً ما تكون المُستَقْبَلات مُشوِّشة للحواس، أو تكون المُدْرَكات مُضلِّلة للعقل، أو تكون المَفاهيم مَغيِّبة للذهن، خاصة في عالم تصنعه وسائل الإعلام الجماهيرية (mass media) كما يقولون؛ حيث تكون الكلمة المقروءة والصورة المرئية عند امتزاجهما أداتين لصناعة إعلامية (إخبارية/ثقافية/ترفيهية) تتشكل بهما رؤية الفرد (وبالتالي أفكاره)، وتتأثر بهما هوية الجماعة (وبالتالي توجهها)!
ولا شك أن الكثير من استقبالنا، وإدراكنا، وفهمنا لهذا العالم الذي نعيش فيه يستمد أبجدياته من معية الكلمة والصورة؛ سواء كان ذلك في كتاب، أو جريدة، أو مجلة، أو سينما، أو تليفزيون، أو قصة مصورة، أو لعبة إلكترونية، ومؤخراً في قنوات فضائية أو مواقع افتراضية. إنها العوالم السحرية التي ننفذ منها إلى الواقع الذي نعيشه (أو نرغب في معيشته)، نستمد منها مرجعيِّتنا لما نصدقه (أو نرغب في تصديقه)؛ حيث تكفي عبارة "لقد قرأت" (بمعنى رأيت)، أو عبارة "لقد رأيت" (بمعنى قرأت)، كدليل دامغ غير قابل للنفي على أننا نقول الحقيقة.. ولا شيء سوى الحقيقة.. سواء كان ذلك لأنفسنا أو للآخرين.
وبحكم أن القيم الاجتماعية السائدة في مجتمع من المجتمعات -تلك الضابطة لسلوك الإنسان- تتغير من مكان لآخر، ومن زمان لآخر، وبحكم أن نفس هذه القيم الاجتماعية، سواء ارتبطت أو لم ترتبط بمعايير دينية/أخلاقية أو وطنية/أجنبية، هي نفسها التي تصنع تصور الفرد عن نفسه، وتصوره عن باقي الأفراد في جماعته أو في الجماعات الأخرى، فإنه من الممكن الكشف عن هذه القيم من خلال فحص مضمون أحد أشكال التعبير الأدبي/الفني التي أفرزها أي مجتمع وقتي (بمعنى مكان ما/زمان ما)، كما يمكن الكشف عنها أيضاً بدراسة ما أثير حول نفس هذا المضمون من فعل أو رد فعل، يقبل أو يرفض.
وانطلاقاً من هذه المقدمة، تأتي القصص المصورة الأميركية، والتي تعرف تجارياً باسم "الكوميكس" (comics)، باعتبارها شكلاً من أشكال التعبير الأدبي/الفني المطبوع الذي يمزج بين النص السردي المقروء والصورة المرسومة المتتابعة، وفقاً لنظام فريد له معاييره العامة (كفن إنساني) والخاصة (كمنتج أميركي)، وفي قوانين علم الوراثة، يمكن للمظهر الخارجي أن يكشف عن المخبر الداخلي؛ بمعنى أن ظهور صفة من الصفات الخارجية على الكائن الحي يمكن (وليس دائماً) أن يكون وسيلة لسبر أغوار هذا الكائن، فيكون دليلاً على سيادة صفة وراثية فتظهر، أو تنحيها فتختفي. وبهذا القانون يمكن القول فرضياً إن "الكوميكس" (إذا اعتبرنا أنها كائن حي نشأ وينمو ويتطور) قد تكشف عن أفكار وربما نوايا منتجي العمل الأدبي/الفني نفسه من ناشر وكاتب ورسام، بشكل أكثر مما كانوا يرغبون في الكشف عنه، كما يمكن الخروج بالعديد من الملاحظات عند تقييم الكوميكس نقدياً لفهم تلك العلاقة المتشابكة بين النص المكتوب والصورة المرسومة (عند تزاوجهما)، ثم وضع الاثنين معاً في سياقهما المناسب للمجتمع الذي أنتجها ويستهلكها، ثم تقديم ذلك كله للقارئ المهتم بشكل موضوعي وحيادي "قدر المستطاع" ليفكر فيه بحرية، عسى أن يصل من خلال ما يقرأ لحرية التفكير.
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.