إنّ الإشارة لتطوّر نظرية المعرفة ومقاربات تفسير التقدّم العلمي، في العلوم الطبيعية أو حتى العلوم الإنسانية يسوقنا إلى تبلور نظريات معرفية غربية بامتياز، خاصة الإسهامات الغربية في مقاربات التقدّم العلمي في القرن العشرين، والتي جاءت على أنقاض منطلقات فلسفية ساهم في صياغتها كوكبة من العلماء، فكلّ من "كارل بوبر" ونظريته المتعلقة بالتكذيب، وأن العلم هو نتاج تطور تراكمي خطّي يساهم في بنائه جموع الباحثين من زاوية التكذيب والمراجعة في المنطلقات والمسلّمات، وذلك قصد بلوغ علم متعالٍ غير قابل بالنقد أو التكذيب، وكذا "إمري لاكتوش" وبرامجه البحثية وفرضية النواة الصلبة للعلم إلى أن قدّم "جوناثان كوهين" مفهوم الثورة العلمية أوالمعرفية وطوره توماس كوهن إلى مفهوم النموذج المعرفي في سياق تطوّر العلم وتقدّمه، هي كلّها مفاهيم تعبّر عن المراحل الكبرى والصور التطوّرية للعلم في عمليته لتعميم الفروض وتطبيق المناهج من طرف الباحثين قصد بلوغ تعميمات موضوعية أصيلة للظواهر الإنسانية والاجتماعية.
وفي هذا الصدد علينا تسليط الدور على الإسهامات الفكرية والفلسفية التي ساهمت بشكل كبير في تطوير نظرية المعرفة، والتي كان روّادها هم بالأساس رواد الفكر الإسلامي ومحاولاتهم لبلورة منطلق نظري وعلمي للعديد من الظواهر الاجتماعية والإنسانية وحتى السياسية، قصد تقنين الحياة البشرية والعمل على رسم خطوط واضحة تكون حوصلة للعبر وتجارب السابقين وتكون نبراسا يضيء درب اللاحقين. فنظرية السياسة الشرعية لشيخ الإسلام ابن تيميّة، وأبو حامد الغزالي في نظرية الدولة، ابن سينا والقراءات الفلسفية والبعد التربوي في المجتمع والنظرية الاجتماعية لدى ابن خلدون والمنطلقات السياسية والاجتماعية وقراءات مالك بن نبيّ لمفهوم الحضارة والتربية والمجتمع وسيّد قطب وحسن البنّا في ميدان الإسلام السياسي وطارق رمضان في الفكر الإسلامي المعاصر هي كلّها ركائّز نظرية لبناء نموذج معرفي مهيمن في العلوم الاجتماعية والدراسات السياسية، حتى مفهوم المجتمع الدّولي من منظور إسلامي في وقت معيّن والذي قام على "دار السلام" و" دار الحرب" و"دار العهد " ووضع إطار موضوعي لبعض العيّنات مثل المؤتمنين وأهل الذّمة، هي كلّها أطر روحانية لكنّها من صميم الدراسات النظرية والتأريخية للعلم، فلا مجال عن القانون الدولي بفروعه سواء الدولي الإنساني أو حتى القانون الدولي لحقوق الإنسان دونما الحديث عن دور الإسلام كدين وكدولة في تقنين العديد من السلوكيات التي حكمت العلاقات الإنسانية وكذا العلاقات بين المجتمعات آنذاك.
إن الحديث عن علم السياسة أو بمفهومه التقليدي المواضيع السياسية في علم الاجتماع أو الفلسفة كعلم حاضن للعلوم والحقول المعرفية، فالفكر السياسي الإسلامي له ما له من جهود في بلورة نظرية جادّة في علم السياسة، لكن غربنة العلوم وتعميم المعرفة من منطلق غربي وحصر الجهود والدراسات المكوّنة لهذه السياقات النظرية في قالب أميركي أوروبي مجرّد، هو تعسّف صريح وحصر العلم وفق إيديولوجيات مهيمنة، وهذا ما انتقده "كارل بوبر" في قراءته لتقدّم العلم وحثّه على تحرير العلوم من القيود المنهجية والإيديولوجيات وخدمة العلم لتوجهات معيّنة تفرض تقنينا غير صحّي، فالعلم في نظره هو الإبداع والتراكم المعرفي والتحرر المنهجي والتعددية في الإسهامات وصراع المنظورات لأجل بلوغ علم متعالٍ قائم على مسلّمات تصلح لتفسير وتحليل الظواهر الاجتماعية والإنسانية.
من هنا نجد أن مشكلة التلقين النظري في الجامعات العربية والإسلامية هي محاولة لفرض نماذج ونظريات ومقاربات غربية الأصل والواقعة بامتياز، وإسقاطها على ظواهر سياسية في المحيط العربي. سؤالي الأساسي هنا هو: ما هي المعوقات التي تقف دونما وصول الباحث الإسلامي والعربي إلى فرض نموذج معرفي في العلوم الإنسانية؟ وما هي المسببات التي تعرقل مسار التنظير في العلوم السياسية والعلاقات الدولية من منظور عربي أصيل دونما الاعتماد على الأطر النظرية الغربية؟
فالواقعية السياسية ونظريات العقد الاجتماعي والنظرية البنائية في دراسة المجتمع والثورة السلوكية في العلوم الإنسانية، هي كلّها مقاربات نظرية فسّرت الظواهر السياسية من دولة ونظم سياسية وسلوك إنساني وفق منظور غربي أوروأميركي. كانت فيه المنطلقات الفكرية والفلسفية قائمة على الفلاسفة والأعلام الأوروبيين، وجل الدراسات الاجتماعية والسياسية هي تطوير للنظرة اليونانية القديمة للظواهر الاجتماعية. أما على المستوى الدولي فالنظرية المثالية أو الليبرالية أو نظرية التحرر والواقعية بتقسيماتها والماركسية والنظرية النقدية والحداثة وما بعد الحداثة، هي كلها مقاربات نظرية أتت لتفسير النظام الدولي من منظورات مختلفة تضاربت فيها الأبعاد الإيديولوجية والولاءات لحكومات معيّنة على حساب أخرى فالواقعية كانت وما زالت المحامي رقم 1 لسلوكيات الولايات المتحدة الأميركية وشرعنة القوة والعظمة الدولية لهذه الدولة. وكذا المقاربة النسوية في العلوم السياسية هي ترجمة وامتداد للفكر الليبرالي والذي تتعارض منطلقات هذه المقاربة مع الإطار العام للمجتمع العربي والإسلامي، فكانت هذه النظريات والمقاربات الأصل وواقعنا العربي والإسلامي هو الاستثناء، وبات لزاما علينا تطبيق نظريات على ظواهر خارج عن الإطار الزمني والمكاني زيادة عن اختلاف البيئات والمؤثّرات.
هانس مورغنتو، تيدور لوي، هنري كسنجر، جون ميرشايمر، كينث والتز، دافيد إيستن، غابريال الموند، كلّهم أعلام في الدراسات السياسية والدولية، وكانت لهم إسهامات نظرية وفكرية في تفسير الواقع الدولي وإرساء حقل العلاقات الدولية من جهة وإرساء علم السياسة، وما الجمعية الأميركية لعلم السياسة 1903 إلاّ تكوين المجتمع العلمي الذي أوكلت له مهمّة تقنين هذا العلم وصياغة إطار نظري وإبستمولوجي لهذا العلم . حيث إن معظم النقاشات والحوارات النظرية التي بلورة ورسّخت علم السياسة كانت تحت مضلّة هذه الجمعية، فكانت لها الشرعية في تحديد مصير علم السياسة بجميع حقوله.
لهذا فالدراسات السياسية والدولية وحتى العلوم الاجتماعية والإنسانية بشكل عام هي إرث غربي بامتياز، تعرضّت فيها الإسهامات العربية والإسلامية لإقصاء وتهميش وذلك لعدّة ظروف ومؤثّرات، كان السبب الأساسي فيها إتاحة المجال أمام المنظرين الغرب لتحصين الحقول المعرفية بأطر نظرية وفكرية غربية وطابع الهيمنة الذي كان نتاج الهيمنة السياسية والدولية والاستعمارية التي أهلتهم لفرض عملية تعميم التي أظهرت فشلها التام في العديد من الأحداث، فلا نظرية ولا مقاربة سياسية ولا حتى اجتماعية ستفسّر الواقع العربي والإسلامي بكلّ موضوعية؛ لهذا فمراجعة عملية التنظير العربي واجبة في هذه الميادين البحثية المطاطية التي لا تقبل الجمود المفاهيمي ولا النظري.
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.