لم أستغرب ولم أتفاجأ من وصف منظمة هيومان رايتس ووتش لحرب الموصل بالحرب القذرة، بل إن هذا الوصف هو أقل ما يجب أن توصف به هذه الحرب التي سلّطت على المدنيين الأبرياء الذين وقعوا بين مطرقة القوات الحكومية والتحالف الدولي والميليشيات وبين سندان تنظيم داعش، الذين جعلوا من المدنيين وقوداً لحربهم التي فتكت بالمدنيين الأبرياء، الذين وقعوا ضحية هذه الحرب التي لا ناقة لهم فيها ولا جمل.
فمنذ أكثر من 150 يوماً من الحرب على الموصل حدثت مآسٍ لم تحدث في أي حرب من قبل، فعشرات العوائل أُبيدت بالكامل وحوّلت منازلهم لقبور لهم، ففي الساحل الأيسر لمدينة الموصل صدرت إحصائية غير كاملة عن إبادة 65 عائلة فقط بأيسر الموصل وعشرات الآلاف من الجرحى والشهداء من المدنيين، أغلبهم نساء وأطفال، سقطوا في القصف المدفعي والجوي للقوات الحكومية والتحالف الدولي، الذين يبررون قتلهم للمدنيين دائماً بأنه عن طريق الخطأ، لكن تكرار القصف يستهدف المدنيين يثبت أنه متعمد وليس عن طريق الخطأ، فما حدث كان مئات المرات وليس مرة واحدة أو اثنتين لكي تبرر بأخطاء ومن سقط فيها الآلاف من الجرحى والشهداء.
أما الساحل الأيمن لمدينة الموصل فهو الأكثر دموية، فقد أحصي خلال ثلاثة أسابيع من الهجوم على الساحل الأيمن سقوط أكثر من 3500 شهيد مدني حسب المرصد العراقي لحقوق الإنسان، فقد سجل منذ بدء الهجوم على أيمن الموصل يومياً مجزرة تحل بالمدنيين الأبرياء الذين أصبحت منازلهم قبوراً لهم، بعدما وقعوا بين مطرقة قوات المهاجمة وتنظيم داعش، فكلا طرفي الحرب فتك بالمدنيين، ولم يكترث لما يحل بأكثر من نصف مليون مدني محاصر في أيمن الموصل، حسب الإحصائيات.
ومن ينجو من الموت بالقصف لم ينجُ من الموت جوعاً، ففي شهر ديسمبر/كانون الأول ويناير/كانون الثاني وفبراير/شباط أحصي وفاة 500 مواطن في كلا الساحلين الأيمن والأيسر، بسبب الجوع وانعدام الدواء، وأغلب الضحايا هم من الأطفال وكبار السن، جراء الحصار المطبق على المدينة ومنع دخول المواد الغذائية والطبية لها.
مصادر من داخل مدينة الموصل تؤكد أن جثث المدنيين الأبرياء بالمئات تحت الأنقاض، جراء القصف العنيف والمكثف العشوائي الذي يستهدف منازل المدنيين، وتؤكد هذه المصادر أن في المدينة القديمة سقطت العديد من المنازل على سكانها جراء القصف المكثف الذي أباد عوائل محاصرة بأكملها، وبعضها لم يتمكن أحد من إخراج جثث الشهداء بل بقيت تحت ركام المنازل، ففي 15 من مارس/آذار صرحت بسمة بسيم، رئيسة مجلس قضاء الموصل بأنهم "في يوم واحد استخرجوا من تحت ركام أحد المنازل 22 جثة، وما إن تم الانتهاء من المنزل الأول حتى وجدوا منزلاً آخر مدمراً وجدوا تحته 15 جثة"، وقالت أيضاً: "إن القصف العنيف هدم العديد من المنازل على رؤوس سكانها المحاصرين".
أما جرائم التعذيب لشباب ورجال الموصل الذين وقعوا في قبضة القوات المهاجمة فهي الأفظع على مر التاريخ، فقد أظهرت عدة تسجيلات فيديو عناصر ميليشيا الحشد وهم يقومون بعمليات إعدام ميداني لمجموعة من المدنيين بعدما فصلتهم عن عوائلهم، وكذلك ظهر فيديو لمجموعة من جنود الجيش الحكومي وهم يحفرون قبراً لأحد المدنيين، ومن ثم قاموا بوضعه في القبر وإطلاق الرصاص عليه بغزارة، ولم تكتفِ القوات المهاجمة بهذه الجرائم، بل هناك الكثير من مقاطع الفيديو أظهرت القوات الحكومية وميليشيا الحشد وهم يهينون المواطنين كإجبارهم أحدَ الشباب على الجري وتقليد صوت الكلاب، وكذلك وضح الحبل في رقبة أحد الشباب وجرة في الشارع، والكثير من الجرائم التي لا تحصى ولا تعد.
ورغم حديث العبادي المتكرر عن وجود ممرات آمنة لخروج المدنيين، أثبت العديد من المدنيين أنه لا توجد أي ممرات آمنة للخروج من المدينة، وأن طريق النزوح مليء بالموت، وإن نجوت من القصف قد لا تنجو في طريق نزوحك من داخل المدينة إلى خارجها، فالرصاص والقذائف والصواريخ التي تسقط بغزارة بشكل عشوائي على المدينة حصدت عدداً من المدنيين الأبرياء وهم في طريق نزوحهم، ففي 26 مارس جرح واستشهد 100 مدني بعد وقوعهم في حقل ألغام زرعه تنظيم داعش على أطراف المدينة.
أما الأوضاع في مخيمات النزوح فلا يختلف عن الوضع داخل الموصل، إلا أنها لا يوجد فيها قصف ولا معارك، فالجوع ونقص الدواء وغياب المساعدات ومحاصرة النازحين في المخيمات جعلتها عبارة عن سجون في الهواء الطلق، فرغم حديث الحكومة قبل بدء الهجوم على الموصل عن أنها تتوقع نزوح مليون مواطن، إلا أنها لم توفر لهم المواد الغذائية الكافية ولا المواد الطبية ولا الخيام، فأغلب النازحين هم اليوم يعيشون أوضاعاً مأساوية جراء البرد الشديد وسقوط المطر والجوع، وغياب الرعاية الصحية الذي تسبب بانتشار بعض الأمراض بين النازحين، خصوصاً الأمراض الجلدية.
إن حرب الموصل هي أقذر مما يتوقعه البعيدون عنها، فكلا طرفي الصراع صب جام غضبه على المدنيين واستخدمهم كوقود لحربه والمتاجرة بهم بنفس الوقت، لكن جرائمهم لا تغتفر ولا تحجب، والمجتمع الدولي كله يتحمل مسؤولية هذه الجرائم، وفي طليعتهم أميركا التي تقود التحالف الدولي الذي ارتكب عدة مجازر بحق المدنيين الأبرياء، فخلال يومَي 20 و21 مارس/آذار الجاري استشهد وجرح نحو 100 مدني بقصف جوي للتحالف الدولي وطيران الحكومي وكذلك القصف المدفعي.
فما يحدث في الموصل جرائم حرب يندى لها جبين الإنسانية، وإنها أبشع جرائم القرن الواحد والعشرين، فقد صم العالم آذانه عن سماع صرخاتنا لإنقاذ المدنيين ووقف القصف العشوائي، وكذلك عصب عينيه عن مشاهدة صورة طفلة ممزقة جثتها تخرج من تحت أنقاض المنازل، فمثل هذه الجرائم لا تسقط بالتقادم طال الزمن أم قصر، وإن مرتكبي الجريمة سيدفعون ثمن إجرامهم، فكلا الطرفين يدَّعي التحرير ولم نرَه أبداً، بل نرى الموت والدمار في كل ركن وشبر في الموصل الجريحة.
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.