كانت رائحة الخشب العتيق رائعة جداً، والرسومات قد بهتت ألوانها من القدم، داخل كنيسة قديمة ذهبنا إليها مع باقي الطلاب في رحلة تعليمية.
وما إن وصلنا إلى المذبح في صدر الكنيسة، فوجئت بأحد الطلاب الذين معنا، ينزل على ركبتيه ويقوم بالتصليب على صدره ثم ينحني ليدعو.
رق قلبي له جداً ودمعت عيناي!
كنت قد سمعته منذ أيام يتكلم بحسرة وحزن عن محاولاته لـ"لمّ شمله أسرته"، وعن العقبات المستحيلة، وإغلاق كل الحدود والمنافذ في وجهه ووجوهنا؛ لأننا سوريون!
هل هي لعنة حلت علينا لأننا سوريون؟!
قال ذلك قبل الآن!
هل حلت علينا اللعنة فعلاً والعياذ بالله؛ لأننا سوريون، فلسطينيون، عراقيون، بشر مختلفون!
اجتاحتني لحظة عاطفية قوية، وخرجت من الكنيسة والدموع تترقرق في عيني!
الإنسان ذلك الإنسان، الذي يحلم ويأمل ويتألم ويحلم ويدعو ويحتاج الشعور بالقرب من الله، القريب المجيب، ويضع على بابه كل آماله الكسيرة وأحلامه المحطمة وأشواقه المستعرة وإخلاصه لمن يحب، بأي لغة؟ بأية طريقة؟ بأية وسيلة؟!
أمام الكنيسة كانت هناك متحف دخلنا إليه مع أستاذنا، امتلأ بقطع يدوية تحاكي التاريخ ولكنها ليس تاريخية!
لكن شيئاً واحداً كان هناك، قديماً ومثيراً ومخيفاً!
حذرنا بعض الرفاق من الدخول، لكنني أردت أن أعرف ماذا هناك!
هناك في مكان معتم، داخل صندوق زجاجي جثة مسجاة، كجسد الأميرة النائمة!
شعر أشقر متكوّم على بعضه، ما زال ذهبياً برغم مرور السنين!
عظام سوداء متفتتة، ولكن لا رأس!
كم وقع من العشاق ربما في حب صاحبة الشعر الذهبي وما الذي تسبب به لها أدعياء العشق يا ترى ؟ وما الذي واجهته من أقدار مريرة ؟
خطوات قليلة قادتني إلى لوحة كبيرة، تتحدث عن تلك الفتاة:
امرأة يخمن أن عمرها في العشرين، جثة بلا رأس، فالرأس مختفٍ بشكل غريب ومجهول!
حرمت هذه المرأة من دفن رسمي كنسي، وهذا لا يحدث إلا لمن يخرق قوانين المجتمع!
أوه يا ربي!
تلك المرأة إذن كانت ممن حلت عليه اللعنة، وطردت من رحمة بني البشر!
ماذا يفعل البشر ببعضهم؟
كيف يستطيعون أن يزهقوا الأرواح ويحكموا على الآخرين بكل بساطة بالنبذ والموت السريع أو البطيء، بالنفي والحرمان من الاجتماع مع الأحبة؟
أولسنا كلنا كهذه الفتاة محرومين!
ها نحن عالقون بين الأرض والسماء:
شعب وقبله شعب وشعب، أغلقت في وجوههم أبواب دول العالم كلها، ومن وصل وحده بر الأمان، استحال عليه بعد إغلاق كل الدول -حتى تركيا الملاذ الأخير- أبوابها في وجه السوريين، استحال عليه أن يجتمع بعائلته أو يلم شملها!
رجال متعلمون محترمون أطباء أو رجال أعمال أو محامون أو معلمون، تنظر إلى وجوههم فتشعر بعمق الانكسار وهو لا يستطيع أن يضم إلى صدره حبيبته وشريكة عمره، بل لم يستطِع أن يرى ثمرة حبه وفلذة كبده، فلا هو قادر على العودة ولقائهم ولا هم قادرون على الخروج.
سنوات وسنوات تمر من المرارة، فلا الذي يعمل في الكويت يسمح له بإحضار زوجته وأبنائه، ولا الذي يعمل في قطر استطاعت زوجته الحصول على جواز سفر! ولا الذي وصل للسويد قادر على أن يخرج زوجته وأولاده من جحيم الحرب، ولا ذلك الذي لا يريد الخروج من وطنه، أصبح قادراً على البقاء وقد تحطمت داخله آخر أسوار المقاومة وبدأ إيمانه يضعف بعد كل الهول الذي شاهده!
وحتى تلك الشابة لم تستطِع رؤية أمها منذ ثلاث سنوات؛ لأن مصر لا تسمح بدخول السوريين وأمها لا تملك إقامة تخولها الخروج والعودة!
واليأس قد يدفع المرء للبحث عن طريقة مجنونة ليلتقي بمن يحب: فمنذ أيام وبعد أن يئس من لمّ شمله مع عائلته الموجودة في تركيا وهو في ألمانيا، فقرر العودة بطريقة غير شرعية من ألمانيا إلى تركيا ليرى زوجته وطفله، فمات غرقاً في نهر في تركيا قبل أن يتمكن من رؤيتهم ويتمكنوا من رؤيته واحتضانه ولو لمرة أخيرة!
أما من كان محظوظاً واستطاع لمّ شمل روحه بعد طول عذاب وانتظار قبل إغلاق الحدود، فتجده يحتضن بحب ولهفة وشوق وفرح قطعة قلبه التي فرقتها عنه المنافي والحدود والسدود، رجال مهما علت مقاماتهم فإن كل القلب والروح معلق بشريكات حياتهم وأسرهم وأبنائهم، الأسر التي غدت المآل الأخير والوطن الصغير لأولئك الذين نفتهم الحروب والظلم والقهر من الوطن.
وحتى يسمح العالم ودوله وسفاراته للسوريين بلم شملهم مع أسرهم وأحبتهم، تبقى القلوب والأرواح خاوية على عروشها، والريح تصفر ممزقة نياط القلب، الذي تقطع في انتظار فيزا من سفارة أو إذن بالخروج من قلب الجحيم المستعر، أو جواز سفر ممن استباح البلاد والعباد وحوّلنا إلى لاجئين في المنافي!
فهل خلا قلب العالم كله من الرحمة وحلت على هذا الشعب لعنة بني البشر جميعاً وسخطهم، كما حلت على تلك الفتاة؟! وأصبحنا كتلك الفتاة جسداً كان يوماً جميلاً فاتناً فقطعوا أوصاله وذهبوا برأسه ليبقى دائماً جزء من القلب والروح والجسد ناقصاً ببعد الأحبة الذي يقتلع الروح!
ثم مددوه في صندوق زجاجي وأخذوا يتفرجون على مأساته من بعيد! دون أن يفكر واحد منهم في أن يوقف العذابات أو يخفف المأساة ويمنع مزيداً من الظلم عن أولئك المقهورين!
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.