متوالية الظلم التاريخية.. لا الظالم ارتدع ولا المظلوم اقتنع

إن المظلومين إذا نهضوا لاسترجاع إنسانيتهم قبل التطهير من آثار الظلم، فسوف يكونون عاجزين عن قيادة حركة استرجاع العدل الإنساني؛ لأن تفكيرهم ومشاعرهم وقيمهم قد تشكلت في بيئة الظلم التي نشأوا فيها.

عربي بوست
تم النشر: 2017/12/27 الساعة 23:38 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2017/12/27 الساعة 23:38 بتوقيت غرينتش

لم يحرم الله شيئاً على نفسه كما حرّم الظلم، ومع هذا نجد أن سوق الظلم رائجة، وأن مريديها كثر.

الظلم الذي ينشأ من التقاء ظالم بمظلوم، وجلاد بضحية، ظالم يبدأ صغيراً جداً، ثم يكبر ويكبر حتى يصبح جباراً، يشقي نفسه، ويشقى به الآخرون، تسمعه يردد فى صدى التاريخ: (ما علمت لكم من إله غيري)، (ما أريكم إلا ما أرى)، (إنما أوتيته على علم عندي)، (أنا أحيي وأميت)، (من أشد منا قوة)، وغيرها من العبارات المتألهة.

يرى الظالم مصارع الظالمين قبله ولا يرتدع، ولا يرعوي، ولا يتراجع، يسير على نفس خطوات الظلمة السابقين، ويفكر بنفس عقليتهم، ويبطش بالمظلومين كما بطشوا، ويشعر بنفس شعورهم -أتواصوا به- وفي الأخير يلقى نفس مصيرهم، حذو القذة بالقذة، فتلعنه الأجيال كما لعنت من قبله، ويدخل التاريخ من أسوأ أبوابه، وتسجل فضائعه في صحائف سود يتعوذ منها الكبير والصغير، وتطوى صفحته؛ ليأتي بعده ظالم آخر يسير على نفس الطريق.. وهكذا، لا ارتدع الظالم ولا اعتبر، وهذه حلقة الظلم الأولى.

والمظلوم هو حلقة الظلم الثانية، فالمظلوم والضحية هما خميرة لوجود الظلم، وظهور الظالم، فكم من مظلوم كان باستطاعته أن يمنع الظلم عن نفسه وغيره بكلمة، ولكنه بخل بها! وكم من مظلوم كان بإمكانه أن يردع ظالماً بموقف حازم وكلمة صارمة، ولكنه صمت! وكم من مظلوم كان في مقدوره أن يوقف ظالماً عن ظلمه بشيء يسير من جهده أو ماله أو وقته، ولكنه بخل بهذا اليسير من جهده ووقته وماله! وكم من مظلوم كان باستطاعته أن يردع ظالماً، ويوقف ظلمه، ويشجِّع غيره على الوقوف معه، وإن أصابه القليل من الأذى، ولكنه خاف وتراجع، مما أغرى الظالم بالاستمرار في ظلمه وبغيه.

إن الظلم ينتشر ويعم ويتعاظم في وجود هؤلاء المظلومين والضحايا، والظالمون يجدون لهم مرتعاً خصباً مع أمثال هؤلاء المظلومين، بل هناك من المظلومين من يزيّنون للظالمين ظلمهم، بل ويقفون معهم ويشرعون لهم ظلمهم خوفاً وطمعاً، وكما قال أحد المظلومين في زمانه -مظلوم في هيئة ظالم- لظالم عصره:
ما شئت لا ما شاءت الأقدار ** فاحكم فأنت الواحد القهار

إن العدوان والظلم يولدان الكراهية والسخط، ويمثلان خميرة لثورات عاتية، تعصف حين تنفجر بمقترفي الظلم وبمؤسساتهم، وتبدد كل ما صنعته أيديهم، وتزيلهم من الوجود.

ولقد شهد القرن العشرون العديد من ثورات المعدمين ضد مستغليهم من الرأسماليين.

ومن المؤكد أن القرن الحادي والعشرين سيشهد المزيد من تلك الثورات، وهو ما أكده (ابن تيمية) في شأن زوال الدول والحضارات حين تسير على منهج الظلم، فقال: "إن الله يقيم الدولة العادلة وإن كانت كافرة، ولا يقيم الدولة الظالمة وإن كانت مسلمة، والدنيا تدوم مع العدل والكفر، ولا تدوم مع الظلم والإسلام".

إن الظلم (الوطني) -كما يقول جلادستون- هو الطريق الأكيد لانهيار الدول والحضارات، وإن النظم السياسية الظالمة التي تضيق بالرسل والمصلحين وتنفيهم من الأرض، لا بد أن تفقر مجتمعاتها من مصادر قوتها البشرية، وتغري المجتمعات الأخرى بغزوها وتقويضها، ثم نفي رؤوسها أو إذلالهم وقتلهم، والسياسة الدولية -في أيامنا هذه- ليست إلا أسلوباً لإخفاء الحق وإسدال الستار على الظلم حتى يفلت المجرم بجريمته.

إذا لم يرتدع الظالم فلا بد أن يقتنع المظلوم، ولا بد من فك الارتباط بين ظالم لا يرتدع ومظلوم لا يقتنع، فعواقب الظلم وخيمة، ونتائجه كارثية، وكلما طال أمد الظلم، تضاعفت ضريبة إزالته.

فالظلم الذي تتطلب إزالته اليوم كلمة قد لا تكفي إزالته في المستقبل دماء، والظلم الذي يمكن إزالته اليوم بالتضحية ببعض الجهد أو الوقت أو المال، قد لا تكفي لإزالته في المستقبل التضحية بكل الجهود والأموال والأوقات، وعند انتشار الظلم يتم تخطّي كل الحواجز، ولا يبقى شيء مقدس.

لقد صار لسان حال كل إنسان يقول: لا أريد أن أكون أنا الضحية أو كبش الفداء، فليكن غيري، ويتضح في الأخير أن الجميع قد أصبحوا كلهم ضحايا. وهذا نتيجة لما غرسته المؤسسات التربوية والتعليمية في كثير من الدول العربية، -كما ذكر بكار- فقد أخرجت هذه المؤسسات جيلاً من (الإمَّعات) المقلدين؛ حيث يكون شق طريق جديد بالنسبة لهم أمراً يبعث على الريبة، وحيث يكون السير خلف الآخرين أمراً محموداً ومرغوباً، لقد أخرجت هذه المؤسسات جيلاً ماهراً في العثور على محاسن الظلم الذي يقع عليهم، ويعرفون كيف يصفقون لظالمهم، وكيف يكبتون مشاعرهم إلى ما لا نهاية.

ومن العجيب فعلاً أن أكثر الذين يخافون من الحرية، ويدققون في مدلولاتها ومآلاتها هم المكتوون بنار الظلم والتسلط والاستبداد.

إن المظلومين إذا نهضوا لاسترجاع إنسانيتهم قبل التطهير من آثار الظلم، فسوف يكونون عاجزين عن قيادة حركة استرجاع العدل الإنساني؛ لأن تفكيرهم ومشاعرهم وقيمهم قد تشكلت في بيئة الظلم التي نشأوا فيها.

ولذلك سيكون شخص الظالم الذي يعانون من ظلمه هو نموذج الإنسان الجديد الذي يودون إحلاله محل الظالم القائم. وحين يحكم المظلومون يتقمصون شخصية ظالميهم ويخافون من العدل والحرية كما كان ظالموهم يخافون منهما، ويطاردون المطالبين بهما فيسجنونهم بالشبهة ويعدمونهم دون محاكمة.

لا بد من فك الارتباط بين الظالم والمظلوم.. لا بد من كسر حلقة الظلم.. إن لم يكن من الظالم ليرتدع.. فليكن من المظلوم ليقتنع. وإذا زادت نسبة الظلم أو الشر في واقع ما، فلنتذكر فوراً الارتباط الكبير بين النفوس والواقع، ولنتيقن أن ما نشاهده في واقعنا هو ما نستحقه، ومن الخطأ أن نظن أن الواقع سيئ بدرجة كبيرة، في حين أننا جيدون بدرجة كبيرة، وأن سبب هذا الواقع هو أن حكومة أو اتجاهاً أو حزباً ما، هم المسؤولون وحدهم عما وصلنا إليه، فالواقع هو حصيلة ما في نفوس المجتمع جميعاً فرداً فرداً، سواء كان ذلك خيراً أو شراً.

ملحوظة:

التدوينات المنشورة في مدونات هاف بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

علامات:
تحميل المزيد