اتجاهان يتصارعان على قيادة المجتمعات الغربية، الأول يسعى للانفتاح والعولمة وتمثله بوضوح المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل واتجاه يهدف إلى صك الحدود والانغلاق بل أحياناً العنصرية وأكثر ممثليه فجاجة المرشح لتمثيل الجمهوريين في انتخابات الرئاسة الأميركية دونالد ترامب، وفق ما كتبه المحلل ألريخ سبيك في مقال رأي نشرته الغارديان البريطانية.
ووصل الجموح بالمرشّح ترامب إلى اقتراح إنشاء سورٍ عظيم لمنع الهجرة من المكسيك، وعلى العكس منه ميركل الشرقية التي عاشت خلف سور برلين، تعلم أن الحياة خلف الأسوار أقسى بكثير من بعض المشكلات الناجمة عن هدم هذه الأسوار.
نص المقال
اتجاهان رئيسيان يشكّلان طبيعة الصراع السياسي في الغرب هذه الأيام، أولهما يمكن أن نسميه "العولمة"، وهو الاتجاه الذي تقوده حالياً المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل، أما الاتجاه الثاني فهو أقرب ما يكون لرؤية المرشح الجمهوري الأميركي دونالد ترامب، ويمكن تسميته بـ"الإقليمي" وهو ما يقضي بإعطاء الأولوية في الحقوق والمنافع لمن هم داخل حدود البلاد دون غيرهم.
إذا أردنا النقاش حول الحدود بين الدول، وفكرتها الرئيسية، فعلينا أن نطرح بعض التساؤلات الأساسية: هل يجب أن تكون الحدود متسامحة، أم يجب أن تكون مغلقة ومراقبة بشدة؟ هل هي بالأساس عائق أمام حرية تدفق وتنقل الأفكار والبشر والبضائع والمعلومات؟ وإذا كان الأمر كذلك، فهل يجب إلغاؤها؟ أم هل تمثل تلك الحدود حاجزاً لحماية الشعوب والأعراق المختلفة من التهديدات كالاحتلال والإرهاب؟
بالنسبة لاتجاه ميركل، فكرة الترابط بين الدول المختلفة هي أمرٌ جيد في حد ذاته، لأنه يدفع نحو مزيد من التقدم والازدهار والحرية في كل مكان. بالنسبة للاتجاه الذي يمثله ترامب، فكرة الانفتاح تلك هي بمثابة تهديد في حد ذاتها، حيث ينسب هذا الاتجاه كل ما هو جيد إلى مواطني الدولة، وينسب كل ما هو خطر إلى الخارج، كحديثه على سبيل المثال عن كون الصين تتبنى منهجاً تنافسياً غير عادل، وعن خطر المهاجرين القادمين من المكسيك، وعن الإرهاب في الشرق الأوسط.
يسعى أتباع الاتجاه الأول إلى مراقبة الحدود مع أقل قدر من التدخل، وتقليل الأخطار القادمة من خلالها أملاً في تحقيق أقصى قدر ممكن من المكاسب من خلال ترابط واتصال المجتمعات والأسواق المختلفة، مع مراقبة وإدارة التدفق عبر الحدود بطرق متعددة منها التعاون بين حكومات الدولة المعنية.
هل يحقق "سور ترامب" العظيم الازدهار الاقتصادي؟الاتجاه الآخر، على النقيض تماماً، لا يؤمن على الإطلاق بتلك المؤسسات الإقليمية والدولية، ولا يؤمن سوى بالقوة والسيادة الوطنية. يريد دونالد ترامب الاستثمار بشكل أساسي في الجيش الأميركي بهدف جعله "كبيراً وقوياً وعظيماً للغاية" وألا يستطيع أحد "أن يعبث معه" على حد وصفه. ما يراه ترامب ومن يتبعون نفس المنهج، هو أن العالم خارج حدودهم هو عبارة عن فوضى وأنه خطر للغاية، وأن الطريقة التي يجب التعامل بها مع أي تهديد هي استخدام القوة مباشرة.
في تصريح شهير لترامب، قال "فجروا داعش"، فهو لا يرى أن التحالفات مع الدول الأخرى تمثل أي قيمة بالنسبة للولايات المتحدة، بل يرى فيها عبئاً عليها ، حيث يرى أن دولاً مثل اليابان وكوريا وألمانيا تنتفع بالمجان من دور الولايات المتحدة، وتمثل عبئاً عليها كحلفاء لها، وأن من يدفع ثمن تلك التحالفات في النهاية هم المواطنون الأميركيون من ضرائبهم.لم يكتف المرشح الرئاسي الأميركي الأشهر عند هذا الحد، بل طالب بإغلاق جزئي لشبكة الإنترنت حتى لا يتمكن الإرهابيون من استخدامها في تجنيد أعضاء جدد، فإغلاق الحدود ووقف تدفق البشر والمعلومات عالمياً هي جزءٌ رئيسي من المنهج الذي يمثله، ولذا يطمح ترامب في بناء "أعظم سور عرفته البشرية" على الحدود بين المكسيك والولايات المتحدة، لمنع دخول أي مهاجرين من جهة المكسيك.
معاقبة الشركات الأميركية
يعتقد أتباع اتجاه ترامب أنه من الممكن تحقيق الازدهار الاقتصادي حتى مع غلق الحدود وتضييق الخناق عليها، فهو يدعو على سبيل المثال إلى ضرورة إعادة التفاوض حول اتفاقية التجارة الحرة لأنها "غير عادلة" بالنسبة للأميركيين، ولا تمنحهم حقهم الكامل في فرص العمل التي يستحقونها، حيث يرى أن الشركات الأميركية مثل "فورد" وغيرها يجب أن تُعاقب على استثماراتها بالخارج، وأن شركة مثل "آبل" يجب أن تقوم بتصنيع أجهزتها في الولايات المتحدة وليس الصين. كما يؤمن ترامب أن دولاً مثل الصين واليابان والمكسيك وفيتنام والهند تقوم بأخذ ما لا تستحقه، وأنه يجب إيقافها عند هذا الحد.
يمكننا القول بأن ترامب هو أكثر من يتبنون الخطاب العدائي من بين ممثلي الاتجاه المنغلق، ولكنه ليس الوحيد في هذا الاتجاه. فقد قام الكثير من المتابعين والمحللين في الولايات المتحدة بانتقاد الحزب الجمهوري لتبنيه منهجاً يعتمد على الصخب والشعبية على مدار سنوات، وعلى سماحهم لترامب بأن يحصد ثمار ذلك المنهج في نهاية المطاف.
أتباع المنهج المنغلق في أوروبا يحظون بنصيبهم من التواجد السياسي أيضاً، ويتفق الكثير منهم مع ما يطرحه ترامب، مثل مارين لوبين –زعيمة الجبهة الوطنية في فرنسا- والتي تتمتع بحظوظ مرتفعة للفوز بانتخابات الرئاسة الفرنسية التي ستجري في العام القادم. لا يختلف فيكتور أوربان –رئيس وزراء المجر- كثيراً عن ترامب ولوبين، فقد برز مؤخراً على الساحة من خلال مجموعة من التصريحات العنصرية والقرارات المتعسفة ضد اللاجئين، حيث واجه تدفقهم بغلق الحدود والأسوار الضخمة. يمكننا القول بأن منهج "الإقليمية" المنغلق هو مستمد بالأساس من المنهج الشعبوي، الذي لا يقدم سوى مجرد إجابات بسيطة ومتضاربة للتحديات المعقدة، وتكون تلك الإجابات قائمة بالأساس على سياسة الخوف من الآخر، فيما يقوم أتباع هذا المنهج بتقسيم العالم إلى أصدقاء وأعداء.المشكلة الأكبر في المنهج الإقليمي ليست في حالة الاستقطاب الكبرى التي يخلقها، ولكن في كون هذا المفهوم معيباً ومختلاً من الأساس. إذا نظرنا إلى الوجه التنفيذي لهذا المنهج، نجد أنه يعتمد بالأساس على إيقاف العولمة بشكل كامل، وتقليص الاستثمار في أي تحالفات أو شئون دولية للحفاظ على الأمن والحريات داخل البلد. يستطيع هؤلاء في النهاية حصد جهد غيرهم في السنوات السابقة على المستوى الاقتصادي والأمني، إلا أنهم يفشلون في إدراك أن تلك المكاسب لم تأتِ بالأساس سوى من انفتاح المجتمعات ومساهمتها في النظام الدولي. وبما أن العولمة تقوم بالأساس على الانفتاح المجتمعي وحرية تدفق الأفراد والبضائع والمعلومات عبر الحدود، يمكننا القول أنه في حالة وصول أتباع ذلك المنهج إلى الحكم في الدول الكبرى، فهناك خطرٌ كبير على فكرة العولمة من الأساس.
الزعيمة القادمة من وراء الأسوار
على الجانب الآخر، تدرك ميركل تماماً أننا أمام مفترق طرق، وأن أزمة اللاجئين ما هي إلا جزءٌ من تحدٍّ أكبر، وهو التزام الدول تجاه العولمة، فالتحدي الأساسي بالنسبة لها هو كيفية الحفاظ على العولمة رغم تصاعد الصراعات والتوتر الجغرافي والسياسي عالمياً.
تعتبر ميركل واحدة من بين قليلين من قادة الغرب ممن عاشوا في بلد ما، في حالة فقر وكبت وعزلة عن الغرب بالكامل من خلال الأسوار والأسلاك الشائكة، حيث كانت في الخامسة والثلاثين من عمرها عندما أُزيل سور برلين عام 1989، لذلك، فهي تفهم تماماً ما الذي يعنيه أن يتم إيقاف تدفق البشر بين الحدود، وأن يكونوا محاصرين داخل حدود دولة ما ولا يمكنهم تخطيها. بالنسبة لميركل، العولمة تعني التقدم والازدهار، وتفتح آفاقاً وفرصاً جديدة نحو مزيد من الحرية والرخاء للجميع. وعلى الرغم من كون العولمة تحدياً كبيراً، إلا أن مكاسبها تفوق بكثير الخطر الذي تمثله، كما أنه في عالم مفتوح اقتصادياً كالذي نعيش فيه، ومع وجود القوى الكبرى كالولايات المتحدة والصين وتأثيرها الواسع، فلا يمكن بالنسبة لميركل أن تقتصر السياسة الألمانية على الداخل الألماني فقط.
تقول ميركل أنها تحلم بحدود أكثر انفتاحاً بين الدول الأوروبية، وأنها تأمل في أن يستطيع الجميع الاستفادة من المكاسب والإنجازات بشكل عادل دون أي تمييز بناء على الموقع الجغرافي كما هو الحال حالياً، إلا أن مسؤوليتها حالياً لا تتوقف فقط عند المشاركة القوية والفعالة في السياسات الأوروبية، بل عليها تحمل المزيد من المسئوليات والأعباء تجاه ما يحدث خارج أوروبا نفسها، فالحدود المفتوحة بين الدول الأوروبية حالياً تتعرض لتهديد صريح، حيث تمثل أزمة اللاجئين الكبرى حالياً اختباراً قوياً لنظام "الشنغن" الذي أقرته الدول الأوروبية لحرية التنقل عام 1995، ومازال من غير الواضح حتى الآن إذا ما كان ذلك النظام سيستطيع الصمود في وجه كل هذه التحديات، أم أنه سينهار في النهاية.
يمكن القول بأن الحكومات هي ضحية حيرة كبرى بين رغبتها في حماية ما وصل إليه الاتحاد الأوروبي من تقدم وانفتاح، وبين الضغوط غير المحدودة من أتباع الاتجاه الإقليمي المنغلق والذين يسعون دائماً لفرض وجهة نظرهم في هذه النقطة تحديداً. وإذا كانت الدول الأوروبية تريد الحفاظ على الإنجازات التي حققتها العولمة، فيجب أن تقوم القوى والدول ذات الاتجاهات الوسطية بين المنهجين بأخذ قرارها ودعم اتجاه ميركل، كما ينبغي عليها السعي بقوّة نحو حدود ومجتمعات أكثر انفتاحاً.
– هذا الموضوع مترجم عن صحيفة الغارديان البريطانية. للاطلاع على المادة الأصلية، اضغط هنا.