أشاهد فيلم غاندي كثيراً، تعجبني سيرة الرجل كما تعجب الملايين من العالم، صحيح أني أفضل السيرة الذاتية المقروءة؛ لأنها أدق، فلا تكاد تخلو أفلام السير الذاتية عن تعديل وحشو وحذف.
أحب أكثر -كغيري- المشاهد والمواقف التي يبدو فيها مثالياً إلى حد كبير، حتى ولو كنت أعلم أنه لم ينجح في كل ما دعا له، لكن يكفيه أنه طَبَّق ما يدعو إليه على نفسه قبل الآخرين.
من هذه المشاهد حينما كان يحاول بعض قادة كفاح الاستقلال الهندي إثناءه عن الصيام لوقف المظاهرات المنددة بإحدى المجازر التي قام بها الاحتلال البريطاني ضد السلميين العزل من الهنود، والتي تحولت إلى ثورة، فاحتوى بعضها عنفاً أدى لقتل بعض الضباط.
كان موقف غاندي صارماً، يجب أن يتوقف الناس عن ثورتهم؛ لأنها انحرفت عن السلمية المطلقة، وسيصوم حتى الموت إن لم يفعلوا! في هذا المشهد يقول كلمته الشهيرة: "العين بالعين تجعل كل العالم أعمى"، قال له نهرو، الذي صار لاحقاً أول رئيس للهند المستقلة: إن تلك كانت حادثة واحدة وليست عامة. كانت إجابة غاندي قوية، سريعة، وبديهية بالنسبة له: "أخبر ذلك لعائلات الجنود الذين قُتلوا".
"أخبر ذلك لعائلات الجنود الذين قُتلوا"، أفكر في الأم والزوجة والأطفال والأب، ضحايا الحروب الذين لا يتم عدهم أبداً. أتراجع، هؤلاء هم جنود الاحتلال البريطاني الذي ارتكب مجزرة بشرية لتوه، لكن هب أن أحداً من الجنود القتلى لم يكن مشتركاً في المجزرة؟ وهو ما يبدو من السيناريو، أعود فتجذبني كلماته مرة أخرى، أصبح أكثر قناعة هذه المرة، لكنني سريعاً أنسى غاندي وأنسى الفيلم نفسه، ويشدني إليه كالعادة هَمّ الوطن.
أصبح السؤال بديهياً، تطبيقه في مصر يصيبك بالجنون، أو يكشف كم الجنون من حولك، إذا كان بعض من في الاعتصامات قد تسلح، فلماذا يُقتل الآخرون من الشباب والرجال العزل والنساء والأطفال؟ وإذا كانت الاعتصامات المُنْفَضَّة في القاهرة، فلماذا تُحرق الكنائس في المحافظات ويغزو الإرهاب سيناء؟ وإذا كان الجميع قد فكر كالاحتلال البريطاني، فلماذا لم يوجد أبداً من يفكر كغاندي، أو قل، كإنسان عاقل تبقى شيء من الإنسانية حياً داخله؟
يدعي بعضهم أن الدكتور البلتاجي متواطئ مع ما يحدث في سيناء بسبب تصريحه الكارثي الشهير، لكن الرجل نفى نفياً صريحاً وأوضح سوء الفهم لتصريحه، ومع ذلك، فإننا لو افترضنا تعمده ما قال، فالذي قُتل في النهاية ليس هو، بل ابنته أسماء ذات السبعة عشر ربيعاً، ما ذنب الفتاة لتُقتل؟ الأكثر إيلاماً أن هناك الكثير والكثير مثل أسماء، لكن بدون أب ذي تصريحات سياسية، بل بدون شأن سياسي أصلاً.
إذا كنت ترى أن ذلك كان مجرد خطأ، وأن آلة الفض لم تتعمد قتلهم، أخبر ذلك لأسر اللاتي قتلن والذين قُتلوا دون أن يحملوا سلاحاً.
استراتيجية القيادات في سيناء أثبتت فشلها، والذي يدفع الثمن هم المجندون من العساكر والضباط حديثي التدريب الذين يُلقى بهم في مواجهة الإرهاب المحترف.
صور الضباط صغار السن تفطر القلب من الحزن عليهم، لا تكاد تخلو كل تصريحات أراملهم (انظر كيف تُسَمَّى من لا تتعدى الثلاثين أرملة) وخطيباتهم من الحديث عن خوف أزواجهن وخُطابهن من الموت وشكواهم من ضعف التأمين الذي يبدو ساذجاً من وصفهم له.
ماذا لو وضع هناك لواء بين خطر القتل مثلهم؟ ماذا لو كان أحدهم في دورية من الدوريات، هل ستكون ضعيفة التأمين العددي والتسليحي كما نسمع عادةً؟ فوق ذلك، تجد من يبرر ما حدث في سيناء بما حدث في القاهرة، إذاً أخبر ذلك لأسر شهداء إخواننا من الجيش والشرطة هناك والذين كانوا يحرسون حدود الوطن ولم يشتركوا في أحداث الفض، ولا غيره.
فوق ذلك الألم آلام أخرى، وآلام سيناء لا تنتهي، باعتراف رئيس الجمهورية بنفسه، هناك ضحايا مدنيون نتيجة الحرب في سيناء، الواقع يقول: اضرب ما تسمعه رسمياً في عشرة أضعاف لتتخيل الحجم الحقيقي للكارثة، صار الملعب واسعاً لتصفية الحسابات بين تجار السلاح والمخدرات وبين خصومهم فَيَشُوا بهم لإلباسهم تهمة الإرهاب ويصبح الضحية مجرد عدد. إذا كنت ممن يرون أن ذلك مجرد نتاج سلبي طبيعي للحرب خارج السيطرة وغير مقصود، ولو كان متوقعاً، أخبر ذلك لأسر إخواننا من شهداء النيران الصديقة.
"لو الجيش نزل الشارع، خلاص، خلاص، اتكلم عن مصر بعد 30 – 40 سنة، فما حدش يفكر يحل المسائل بالجيش. لو عندي خيار؛ إني أدمر البلد، ولا أقف 15 ساعة قدام صندوق انتخابات؟ انتو ما تعرفوش يعني إيه جيش ينزل الشارع، ده خطر كبير جداً، ما نتعلمش من التمن بعد ما نخش 10 سنين ونقول ياه يا ريتنا ما عملنا كده".
هذا الكلام حرفياً هو كلام الفريق عبد الفتاح السيسي في إحدى حفلات تخرج رجال القوات المسلحة، لن أدخل في تفاصيل ما بعد ذلك؛ إذ لا أرى أحداً بريئاً من إجبار سفينتنا على التعرض لأمواج الفوضى بعرضها، الجميع مدان بخرق السفينة يا سادة.
"كان واضحاً أن اللواء عبد المنعم واصل وقائد المدرع 25 يتوقعان وقوع كارثة بالنسبة لهذا اللواء وأنهما يريدان خلق المشكلات التي قد تؤدي إلى منع قيامه بهذه العملية الانتحارية. لقد كنت أشعر في قرارة نفسي بصدق وإحساس كل كلمة يقولها اللواء عبد المنعم واصل، ولكن مسؤوليتي في ذلك الوقت كانت تحتم عليَّ أن أعارض عبد المنعم واصل. كمبدأ عام يمكن للقادة أن يختلفوا عند إبداء وجهة نظرهم قبل اتخاذ القرار، أما بمجرد اتخاذ القرار، فيجب أن يعمل كل منهم قدر طاقته لتنفيذه، سواء كان يتفق مع وجهة نظره أم لا، وقد تم اتخاذ القرار ولا سبيل إلى التراجع الآن، وبعد حديث طويل مع عبد المنعم واصل قال لي بيأس شديد: "لاحول ولا قوة إلا بالله، سوف أقوم بتنفيذ هذه الأوامر، ولكني أقولها مسبقاً، سوف يدمر هذا اللواء".
هكذا يوضح لنا الفريق سعد الدين الشاذلي في إحدى فقرات مذكراته شيئاً من عقيدة الجيش في التعامل مع الأوامر، إذا أردت أن ترى الصورة كاملة، تخيل أنت بنفسك جنود وضباط هذا اللواء وكيف استجابوا للأوامر دون تردد وهم يعلمون مصيرهم من التنفيذ، وقد حدث ما قاله اللواء واصل.
الجميع يعلم أن تزحزح هذه العقيدة شيئاً ما يعني انهيار المنظومة، ولا توجد شواذ لهذه القاعدة، الأوامر في ميدان الحروب على الحدود هي الأوامر في الميادين العامة داخل المدن، لا يعقل أن أتلاعب بالسياسة بانياً أملاً أن تتحرك تلك العقيدة، هذا ضرب من الجنون أو على أقل تقدير خطأ كبير نتيجة مفهوم فاسد. تعلمنا أن نتعامل دائماً مع المتغيرات لا الثوابت في المعادلات الرياضية، لا بد من سبل أخرى غير أن أتخذ موقفاً وحدثاً يؤدي إلى إجبار الجنود على تنفيذ أوامر أقول بنفسي بعدها إنهم يعلمون أنها خطأ، يجب عليك أن تعفي نفسك من مواجهتهم، وأن تعفيهم من تنفيذ ما لا يرغبون فيه، خاصة إذا كنت أنت من تزعم يقيناً أنهم لا يرغبون في ذلك النوع من المواجهة مع المدنيين.
هذا الوطن لن يقوم إلا إذا توقف كل عن جنونه، ماذا يفيد التعنت في توفير الرعاية الطبية لمريض لوكيميا في العشرين من عمره، ثم يُكتَشف بعد سبعة أشهر من ظهور الأعراض القاتلة أنها الليشمانيا! ما هذا المرض أصلاً؟ يتضح أخيراً أنه ينتشر في البيئات القذرة، ويبدو أن ذلك وصف متواضع للسجون في مصر، هذه معاناة وقصة شخص واحد، تجد بعد ذلك من يربع في الحياة الغربية ينتقد من يدعو للتصالح مع الدولة من أجل التخفيف عن هؤلاء تقديماً لإخراجهم، داعياً لهم أن يصبروا فالأمل قريب، كأن موتهم عنده أعز من أن يكتشف أحد أنه على خطأ.
قلنا مراراً: مَن مات قد مات مِن أجل صالح هذه البلدة، وإن صالح هذه البلدة الآن في التصالح، فلا يجب أن نسير على نفس النهج، ولكن يجب أن نصل للنتيجة المرغوبة.
استقيموا يرحمكم الله، ارحمونا يرحمكم الله.
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.