قال لي في حدَّةٍ لا تخلو من توتر: إذا كانت الأرض كروية كما تزعمون وتزعم "ناسا"، فلماذا لم يخبرنا القرآن الكريم بهذا؟
أجبته: وكذلك القرآن لم يخبرنا شيئاً عن الذرة والإلكترونات والاندماج والانشطار النوويين، ولم يخبرنا شيئاً عن المجموعة الشمسية والمجرات ومحيط الأرض وطاقة الشمس، ولم يخبرنا شيئاً عن علاقة الطاقة بالكتلة وعلاقتهما بالسرعة، ولم يخبرنا شيئاً عن الشفرة الوراثية وأمراض السرطان والإيدز وفيروس سي، ولم يخبرنا شيئاً عن الكباري والأنفاق والمنشآت الخرسانية والمعدنية، ولم يخبرنا شيئاً عن المواتير والمولدات الكهربية والمحركات البخارية والنفاثة، ولم يخبرنا شيئاً عن البترول والفحم وكيفية استخراج الغاز الطبيعي وإسالته، ولم يخبرنا عن مئات الأشياء التي ابتكرها الإنسان ونجح في اكتشافها وتطويعها لخدمته وتحقيق رفاهيته!
بل ولا يفترض بالقرآن -ولا بغيره من الكتب السماوية- أن يخبرنا عن شيء من هذا أصلاً، فالقرآن يا عزيزي ليس كتاباً في الفلك أو الرياضيات أو الطب أو الجيولوجيا فضلاً عن سائر العلوم المادية والتجريبية المختلفة، القرآن العظيم كتاب هداية، يخرج الناس من الظلمات إلى النور، ويهديهم إلى صراط مستقيم.
بادرني قائلاً: ألم تقرأ قوله تعالى: "وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِّكُلِّ شَيْءٍ"؟
أجبته: كل شيء؛ أي: من أمور الدين، وليس من أمور الدنيا، هذا والآية الكريمة تؤكد ذلك المعنى الذي ابتعدت أنت عنه بإخراج الآية من سياقها وسباقها ولحاقها، قال تعالى: "وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَاناً لِّكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ" [النحل: 89].
قال متهكماً: أنت إذن علمانيّ؟ تفصل بين الدين والدنيا!
فأجبته بقول النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- كما في رواية أم المؤمنين عائشة في مسألة تأبير النخل حين قال: "إذا أخبرتكم بشيء من أمر دينكم فإنما هو بوحي، وإذا أخبرتكم بشيء من أمر دنياكم فإنما أنا بشر، وأنتم أعلم بأمور دنياكم"، وعليه: فمن الأمور ما هو ديني، ومنها ما هو دنيوي كما ترى.
نظرية المؤامرة:
أدري تماماً أن بعضهم سوف يأتيني بالآيات القرآنية التي تثبت أنّ الأرض كروية، بينما سوف يأتيني الفريق المقابل بآيات أخرى -وربما هي هي- في محاولة مقابلةٍ لإثبات أنها مسطحة، ثم يشنّف أذني بالكلام عن ماسونية وكالة الفضاء الأميركية "ناسا" التي إنما أرادت خداع المسلمين والتآمر عليهم بهدف تشكيكهم في دينهم!
بل سوف يأتيني الفريقُ الأول بآراء ثلّةٍ من علماء المسلمين الأوائل ممن تكلموا في كروية الأرض، ثم سيأتيني الفريق الآخر بآراء آخرين من سلف الأمة ومن مشايخها المعاصرين ممن يتهمون مخالفيهم بالإلحاد وبتكذيب الله ورسوله ما داموا يقولون بكروية الأرض!
والحقُّ الذي أدين الله تعالى به، وعليه ألقاه: أن كلا الفريقين يرتكبُ خطأً فاحشاً في حقِّ العلم والدين معاً!
نعم.. أخطأ أولئك وهؤلاء حين ظنوا أن الله تعالى حين خاطبَ الناسَ من خلال كتبه ورسله ليعلنَ لهم عن فلسفته تعالى في الابتلاء بالخلق والرزق والحياة والموت، وليزكيهم ويطهر قلوبهم ونفوسهم بما يأمرهم به من لزوم مكارم الأخلاق، وبما ينهاهم عنه من الفواحش ما ظهر منها وما بطن، وبألا ينساقوا خلف أهوائهم وشهواتهم، وبأن ينتصروا للمظلوم ويأخذوا على يد الظالم مهما كلفهم ذلك من التضحية ولو بالنفس والنفيس، قبلَ أن يأتي اليومُ الذي يفصل فيه الحكم العادل سبحانه بين جميع الخلائق: "لِّمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ" [غافر: 16].
-أخطأوا حين ظنوا- أنّ الله تعالى حين بيّن ذلك بأفصح لسان وأوضح بيان، إنما أضاف إليه مزيجاً من الإشارات العلمية التي يتثبتون بها من حقيقة ذلك الخطاب الذي لا يحتاج إلى دليلٍ مصطنع أصلاً؛ لأنه بالفعل يناسب الفطرة، ويوافق الجِبِلَّة، ويضبط بوصلة الحياة، ووجهة الإنسانية.
ثم تأتي السُّنَّةُ المطهرةُ؛ لتكونَ تطبيقاً عملياً للقرآن الكريم، "وإنه لكتابٌ عزيز لَّا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ تَنزِيلٌ مِّنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ" [فصلت: 42].
وإني لأشفق أشد الإشفاق على فريقٍ من المسلمين، أرى أنهم ظلموا نصوص الكتاب والسّنّة من حيث ظنوا أنهم بهذا المسلك ينتصرون لهما!
وذلك حين أفاضوا في الكلام عما سموه "الإعجاز العلمي في القرآن" عسفاً للنصوص وتطويعاً متكلفاً لها فيما لم تنطق صراحةً به، فضلاً عن كلامهم فيما سموه "الطب النبوي"، وكأن الرسول -صلى الله عليه وآله وسلم- قد بُعِثَ طبيباً أو صيدلانياً، فوق كونه هادياً للبشرية ومعلماً للإنسانية!
وقد رأينا محاولاتهم الحثيثة لإثبات الفوائد العلمية الجمَّة في التداوي بأبوال الإبل! رغم أن الأمر لو ثبت عن النبي أنه قاله أو ندب إليه، فلا يعدو كونه أكثر من وصفةٍ طبيةٍ بدائية لم يأنف منها أهلُ البادية في زمن الرسالة، وقد أغنانا الطبُّ الحديث بمكتشفاته النافعة وعلاجاته الناجعة عن مثل ذلك.
الخـلاصة:
لستُ أكتبُ هذا المقال؛ كي أنكر شيئاً من نصوص السّنّة كما قد يتبادرُ هذا لبعض المعطوبين بمرض الإدانة وداء إلقاء الاتهامات المعلبة سابقة التجهيز ما لم تذهب مذهبهم، وتتبع مدرستهم!
بل ولا أكتبُه حتى أنتصر لفكرة كروية الأرض أو لنقيضها، فهي مسألةٌ لا تتصل بأصل من أصول الإيمان، ولا ترجع لبابٍ من أبواب الاعتقاد.
بل ولا أكتبهُ حتى أؤيد أو أعارض وكالة الفضاء الأميركية "ناسا"، فقد كفاني القمر الاصطناعي الروسي سويوز "COЮЗ" مؤونة حسم مادة ذلك الخلاف الذي سبب الإزعاج والاضطراب حتى لغير المسلمين (توجد مجموعات تقدر بالآلاف من غير المسلمين ممن يعتقدون أن أرضنا مسطحة ولهم تسجيلات منشورة على يوتيوب!).
وقد قام هذا القمر الاصطناعي الروسي بتصوير الأرض من محطة الفضاء الدولية، وأرسل عشرات الصور التي تثبت أن الأرض التي نعيش عليها كرة كما قالت ناسا، وكما درسناه ونحن صغار وما زال يدرَّس لتلاميذ المرحلة المتوسطة في كافة مدارس العالم.
ولكنِّي كتبتُ ما أكتب لأقول جملةً واحدة لأولئك المتعسفين المتكلفين الذين أرهقوا عقولنا واستهلكوا طاقتنا النفسية حين جعلوا فهمهم للنصوص الدينية المقدسة، هو الحاكم على العلم المادي، وحين توهموا أن الدين لا بد له أن يتدخل في كل شيء في حياة الناس، وإلا فليس بدين!
أقول لهم راجياً مستعطفاً ومشفقاً علينا وعليهم: ارحمونا يرحمكم الله!
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هاف بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.