عندما تحول مسجدنا إلى مقبرة!

جلسنا ندعو لمعلمتنا والجدران تؤمن الدعاء، مسجدنا يبكينا.. كيف تحول إلى مقبرة يزورها الناس. كلما حلت مناسبة أو يأتونها جثامين مطروحة بصندوق خشبي مرعب، يؤخذ الناس به إلى تراب إلى قيام الساعة؟!

عربي بوست
تم النشر: 2016/03/06 الساعة 02:16 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2016/03/06 الساعة 02:16 بتوقيت غرينتش

كنّا لا نزال فتيات صغيرات عندما ذهبْنَ إلى المسجد، فتيات في عُمر الزهور.. نذهب للمسجد للهو واللعب، لم يخل الأمر من بعض المشادّات الكلامية اللطيفة مع السيدات كبار السن، بأن هذا المكان إنما هو دار عبادة ليس مكاناً للأطفال وضوضائهم.

في الواقع كانت توبخنا المعلمة بلطف، ولم تمل من تكرار نفس الإرشادات في تعلم آداب الجلوس في بيت الله، لكنها لم تكن لتخرجنا منه كما يأمرنها بذلك كبيرات السن، وكنت لأعجب على ذلك الصبر في إرشادنا كل مرة من جهة، واستيعاب غضب العجائز بكل ود واحترام من جهة أخرى.

كانت المعلمة في حينها فتاة عشرينية جميلة، ترتدي حجاباً بسيطاً هادئاً وتأتينا ثلاثة أيام أسبوعياً، نحفظ القرآن ونتعلم معانيه ونحفظ بعض الأذكار البسيطة وتروي لنا القصص ونرسم وندرس ونلعب وأحياناً ندندن أناشيد في صوت خفيض!

كان مرتعنا، وملاذنا ومنبت مواهبنا الصغيرة وثقافتنا الوليدة.

أذكر يوماً في إحدى الليالي الرمضانية، عندما كنت بالصف الثاني الابتدائي، هرولت إلى الله بالمسجد أدعوه بإلحاح في صلاة التراويح أن أفوز بمسابقة الإذاعة المدرسية وأن تخسر غريمتي بالمسابقة،
وأخذت أتضرع بالدعاء حتى ظننت أنه يستحيل عليّ الخسارة ولو لم أبذل ما بوسعي!

بالطبع خيراً لم أوفق بالمسابقة، حينها غضبت وعزفت عن الذهاب مجدداً، وسرت في طريقي أفكر أن الله لا يحبني، حينما قابلت المعلمة وأخبرتني أن الله موجود بكل مكان، داخل المسجد وخارجه وهو لا يحتاج إلى عبادتنا بل نحن من نحتاج إلى عبادته سبحانه.

إسلامنا يا صغيرة هو نمط حياة، تتغير دونه الأفكار والأحداث ويتعاقب الناس في حمل رايته، فإن لم نحملها يستبدلنا الله بأناس خير منا يحملونها، يحبون الله ويحبهم، دون مصلحة منه -سبحانه- فإذا قضاها شكروا وإذا لم يقضها نفروا وابتعدوا.

حينها لم أفهم شيئا، لكنني عاودت الذهاب مجددا، إلى أن أُغلق المسجد وصاح بنا الشيخ هذا المكان ليس إلا للصلاة، فاقصدن الصلاة و ليغلق المسجد في وجه المصلين بعد ذلك، ويمنع الجلوس حتى لقراءة القرآن او الدعاء .

حاولنا إحياء الأمر فينا دون جدوى، وتفرق الجميع ليحيا من حيا عن بينة ويأخذ الله في جواره من شاء.

إلى أن أتانا خبر وفاة المعلمة بعد مُضيّ السنين وغياب الذكرى، ذهبنا جميعا لأداء صلاة الجنازة بالمسجد، لم أعرف زميلاتي للوهلة الأولى فقد كبرت الصغيرات وتغيرت الأحوال، واجتمعت قلوبنا دون حديث يقال، فجدران مسجدنا تبكينا وتشهد للمعلمة أن رسالتك هنا دائمة، في خُلق ودين كل فتاة شتتها الظروف لكن حفظ الله بها قلبها وعقلها من الشتات!

جلسنا ندعو لمعلمتنا والجدران تؤمن الدعاء، مسجدنا يبكينا.. كيف تحول إلى مقبرة يزورها الناس. كلما حلت مناسبة أو يأتونها جثامين مطروحة بصندوق خشبي مرعب، يؤخذ الناس به إلى تراب إلى قيام الساعة؟!

الحقيقة، عزاء مسجدنا أنه لم يعد وحده، مهجوراً، فكل مُصلّىً حوله أصبح مهجوراً، و لم يعد الناس آمنين فيه على أنفسهم إذا قصدوه للصلاة، فمثله قتل فيه المئات، أو أُضرِمت فيه النيران.

و كذا كل مساجد أرضنا، الأمر لم يعد مقتصراً على مجرد مصلى، إنما هي قضية جيل لم يعرف للمُصلى سبيلا!

جيل لم يأخذ حصته في طفولته ليدرك أنه مهما أطاحت بك الدنيا فلك دوماً ملجأ، وليتذكر أصلاً أن له دينا سلب حقه في إقامة فروضه الأساسية، دين يدين به ويعيش به.. فعندما تُغلّق جميعها في وجه كل تائه أو تائب أو عابر سبيل فكيف السبيل؟!

و من هنا بدأت أعي ما قالته فتاتنا العشرينية، لأن يبكيك حجر واحد بعد موتك، خير لك من أن تلعنك الخليقة في كل أرضٍ وسماء.. فالله ليس في المسجد فقط، بل عند كل موضع تطأه، فتشهد عليك الجمادات حين يُنطقها خالقها أو لتبكيك وتدعو لك.. هذه رسالتنا!

ملحوظة:

التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

تحميل المزيد